فصل: أوّلاً: البيع في مرض الموت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء السابع والثلاثون

مَرضُ الموْت

التّعريف

1 - المرض‏:‏ سبق تعريفه لغةً واصطلاحاً‏.‏

والموت في اللغة‏:‏ ضد الحياة‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ مفارقة الروح الجسد‏.‏

واختلف الفقهاء في تحديد مرض الموت‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ مرض الموت هو‏:‏ المرض المخوف الّذي يتّصل بالموت‏,‏ ولو لم يكن الموت بسببه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ مرض الموت‏:‏ هو الّذي يغلب فيه خوف الموت‏,‏ ويعجز معه المريض عن رؤية مصالحه خارجاً عن داره إن كان من الذكور‏,‏ وعن رؤية مصالحه داخل داره إن كان من الإناث‏,‏ ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة‏,‏ سواء كان صاحب فراش أو لم يكن‏,‏ هذا ما لم يشتدّ مرضه ويتغيّر حاله‏,‏ فيعتبر ابتداء السّنة من تاريخ الاشتداد‏.‏ فعلى هذا‏,‏ يشترط لتحقّقه أن يتوافر فيه وصفان‏:‏

الوصف الأوّل‏:‏ أن يكون مخوفاً‏,‏ أي يغلب الهلاك منه عادةً أو يكثر‏.‏

جاء في الفتاوى الهنديّة‏:‏ حد مرض الموت تكلّموا فيه‏,‏ والمختار للفتوى أنّه إن كان الغالب منه الموت كان مرض الموت‏,‏ سواء كان صاحب فراش أم لم يكن‏.‏

وقال النّووي‏:‏ المرض المخوف والمخيف‏:‏ هو الّذي يخاف منه الموت‏,‏ لكثرة من يموت به‏,‏ فمن قال‏:‏ مخوف قال‏:‏ لأنّه يخاف منه الموت‏,‏ومن قال‏:‏ مخيف لأنّه يخيف من رآه‏.‏ وقال التّسولي‏:‏ ومراده بمرض الموت‏:‏ المرضُ المخوف الّذي حكم أهل الطّبّ بكثرة الموت به‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ ما أشكل أمره من الأمراض يرجع فيه إلى قول أهل المعرفة‏,‏ وهم الأطبّاء‏,‏ لأنّهم أهل الخبرة بذلك والتّجربة والمعرفة‏,‏ ولا يقبل إلّا قول طبيبين مسلمين ثقتين بالغين‏,‏ لأنّ ذلك يتعلّق به حقّ الوارث وأهل العطايا‏,‏ فلم يقبل فيه إلّا ذلك‏,‏ وقياسُ قول الخرقيّ‏:‏ أنّه يقبل قول الطّبيب العدل إذا لم يقدر على طبيبين‏.‏

ولو اختلف الأطبّاء يؤخذ بقول الأعلم‏,‏ ثمّ بالأكثر عدداً‏,‏ ثمّ بمن يخبر بأنّه مخوف‏,‏ لأنّه علم من غامض العلم ما خفي على غيره‏,‏ قاله الماورديّ‏,‏ ونقله ابن الرّفعة وأقرّه‏.‏

فإن لم يتوفّر من يرجع إليه من الأطبّاء‏,‏ كأن مات قبل أن يراجع أحداً من الأطبّاء‏,‏ فإنّه يمكن أن يعتبر عجز المريض عن الخروج لمصالحه خارج بيته إن كان من الذكور‏,‏ وعن رؤية مصالحه داخل بيته إن كان من الإناث علامةً تدل على كون المرض مخوفاً إن كان قادراً على رؤية تلك المصالح قبله‏,‏ أو أن تعتبر أيّة علامة أخرى تنبئ عن كونه مخوفاً في نظر الأطبّاء العارفين‏.‏

ويقصد بالعجز عن الخروج لمصالحه خارج بيته‏:‏ عجزه عن إتيان المصالح القريبة العاديّة‏,‏ فلو كان محترفاً بحرفة شاقّة كالحمّال والدّقّاق والحدّاد والنّجّار ونحو ذلك ممّا لا يمكن إقامته مع أدنى عجز أو مرض‏,‏ مع قدرته على الخروج إلى المسجد والسوق لا يكون في مرض الموت‏,‏ إذ لا يشترط في هؤُلاء العجز عن العمل في حرفتهم ليعتبروا في مرض الموت‏,‏ بل عن مثل ما يعجز عنه صاحب الحرفة العاديّة‏.‏

الوصف الثّاني‏:‏ أن يتّصل المرض بالموت‏,‏ سواء وقع الموت بسببه أم بسبب آخر خارجيٍّ عن المرض كقتل أو غرق أو حريق أو تصادم أو غير ذلك‏.‏

فإذا صحّ من هذا المرض تبيّن أنّه ليس بمرض الموت‏,‏ وتعتبر تصرفاته فيه كتصرفات الصّحيح دون فرق‏,‏ فالمريض ما دام حيّاً لا يجوز لورثته ولا لدائنيه الاعتراض على تصرفاته لجواز أن يشفى من مرضه‏,‏ أمّا إذا انتهى المرض المخوف بالموت فيتبيّن أنّ التّصرف وقع في مرض الموت‏.‏

ما يلحق بمرض الموت في الحكم

2 - ألحق جمهور الفقهاء بالمريض مرض الموت في الحكم حالات مختلفةً وعديدةً ليس فيها مرض أو اعتلال صحّة مطلقاً‏,‏ وإنّما توفّر فيها الوصفان المشترطان‏,‏ منها‏:‏

أ - ما إذا كان الشّخص في الحرب والتحمت المعركة واختلطت الطّائفتان في القتال‏,‏ وقد ذكر ابن قدامة وجه إلحاقه بالمريض مرض الموت بقوله‏:‏ إنّ توقّع التّلف هاهنا كتوقّع المرض أو أكثر‏,‏ فوجب أن يلحق به‏,‏ ولأنّ المرض إنّما جعل مخوفاً لخوف صاحبه التّلف‏,‏ وهذا كذلك‏.‏

ب - ما إذا ركب البحر‏,‏ فإن كان ساكناً فليس بمخوف‏,‏ وإن تموّج واضطرب وهبّت الرّيح العاصف‏,‏ وخيف الغرق‏,‏ فهو مخوف‏,‏ وكذا إذا انكسرت السّفينة وبقي على لوح‏,‏ وخيف الغرق‏.‏

ج - إذا قدّم للقتل‏,‏ سواء أكان قصاصاً أو غيره‏.‏

د - الأسير والمحبوس إذا كان من العادة أن يقتل‏.‏

هـ - المرأة الحامل إذا أتاها الطّلق‏.‏

ويشترط في هذه الحالات المذكورة وما أشبهها أن يتّصل حال خوف الهلاك الغالب أو الكثير بالموت‏,‏ حتّى تلحق بمرض الموت في الحكم‏.‏

حكم الأمراض المزمنة

3 - الأمراض المزمنة أو الممتدّة لا تعد مرض الموت‏,‏ إلّا إذا تغيّر حال المريض واشتدّ وخيف منه الهلاك‏,‏ فيكون حال التّغير مرض الموت إن اتّصل بالموت‏.‏

قال الكاساني‏:‏ وكذلك صاحب الفالج ونحوه إذا طال به ذلك فهو في حكم الصّحيح‏,‏ لأنّ ذلك إذا طال لا يُخاف منه الموتُ غالباً‏,‏ فلم يكن مرض الموت‏,‏ إلّا إذا تغيّر حاله من ذلك ومات من ذلك التّغير‏,‏ فيكون حال التّغير مرض الموت‏,‏ لأنّه إذا تغيّر يخشى منه الموت غالباً‏,‏ فيكون مرض الموت‏,‏ وكذا الزّمِنُ والمقعد‏.‏

وجاء في فتاوى عليش‏:‏ قال ابن سلمون‏:‏ ولا يعتبر في المرض العلل المزمنة الّتي لا يخاف على المريض منها كالجذام والهرم‏,‏ وأفعال أصحاب ذلك أفعالُ الأصحّاء بلا خلاف

ا هـ‏.‏ قال عبد الباقي‏:‏ وفي المدوّنة‏,‏ كون المفلوج والأبرص والأجذم وذي القروح من الخفيف ما لم يقعده ويُضْنِهِ‏,‏ فإن أقعده وأضناه وبلغ به حدّ الخوف عليه‏,‏ فله حكم المرض المخوف‏.‏

الاختلاف في مرض الموت

4 - إذا طعن الورثة مثلاً في تصرفات مورّثهم بدعوى صدورها عنه في مرض موته بما يمس حقوقهم وادّعى المنتفع أنّ هذه التّصرفات وقعت من مورّثهم في صحّته‏,‏ يفرّق بين حالات ثلاثٍ‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ إذا خلت دعوى كل منهما عن البيّنة‏,‏ فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‏:‏

أحدهما للحنفيّة والحنابلة‏:‏ وهو أنّ القول قولُ مدّعي صدورها في المرض‏,‏ لأنّ حال المرض أدنى من حال الصّحّة‏,‏ فما لم يتيقّن حال الصّحّة يُحمل على الأدنى‏,‏ ولأنّ هذه التّصرفات من الصّفات العارضة‏,‏ فهي حادثة‏,‏ والحادثُ يضاف إلى أقرب وقت من الحكم الّذي يترتّب عليه‏,‏ والأقرب هاهنا المرضُ المتأخّر زمانه عن زمان الصّحّة‏,‏ فكان القول قولَ من يدّعي حدوثها في المرض‏,‏ إذ هو الأصل‏,‏ ولو أراد مدّعي الصّحّة استحلاف مدّعي المرض لكان له ذلك‏.‏

والثّاني للشّافعيّة‏:‏ وهو أنّ القول قولُ مدّعي صدورها في الصّحّة‏,‏ لأنّ الأصل في التّصرف السّابق من المتوفَّى أن يعتبر صادراً في حال صحّته‏,‏ وعلى من يتمسّك بصدوره في مرض الموت يقع عبء الإثبات‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ وهي ما إذا اقترنت دعوى كل منهما بالبيّنة‏,‏ وقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة على قولين‏:‏

أحدهما للحنفيّة‏:‏ وهو أنّه ترجّح بيّنة وقوعها في حال الصّحّة على بيّنة وقوعها في المرض‏,‏ لأنّ الأصل اعتبار حالة المرض‏,‏ لأنّه حادث‏,‏ والأصل إضافة الحادث إلى أقرب وقت من الحكم الّذي يترتّب عليه‏,‏ والأقرب هو المرض المتأخّر زمانه عن الصّحّة‏,‏ فلهذا كانت البيّنة الرّاجحة بيّنة من يدّعي حدوثها في زمان الصّحّة‏,‏ إذ البيّنات شرعت لإثبات خلاف الأصل‏.‏

وقد جاء في مجلّة الأحكام العدليّة‏:‏ ترجّح بيّنة الصّحّة على بيّنة المرض‏,‏ مثلاً إذا وهب أحد مالاً لأحد ورثته ثمّ مات‏,‏ وادّعى باقي الورثة أنّه وهبه في مرض موته‏,‏ وادّعى الموهوب له أنّه وهبه في حال صحّته‏,‏ ترجّحُ بيّنةُ الموهوب له‏.‏

والثّاني للشّافعيّة‏:‏ وهو أنّه ترجّح بيّنة وقوعها في مرضِهِ على بيّنة وقوعها في صحّته‏.‏ الحالة الثّالثة‏:‏ وهي ما إذا اقترنت دعوى أحدهما بالبيّنة دون الآخر‏,‏ وفي هذه الحالة لا خلاف بين الفقهاء في تقديم قول المدّعي صاحب البيّنة على قول الآخر الّذي خلت دعواه عن البيّنة‏,‏ سواء أقام صاحب البيّنة بيّنته على صدور التّصرف في الصّحّة أو في المرض‏.‏

الهبة في مرض الموت

جعل جمهور الفقهاء لهبة المريض أحكاماً تختلف عن أحكام هبة الصّحيح‏,‏ وفرّقوا بين ما إذا قبضها الموهوب له قبل موت المريض الواهب‏,‏ وبين ما إذا لم يقبضها قبله‏.‏

أوّلاً‏:‏ هبة المريض غير المدين المقبوضة

5 - إذا وهب المريض غير المدين شيئاً من ماله‏,‏ فإمّا أن يكون الموهوب له أجنبيّاً عنه‏,‏ وإمّا أن يكون وارثاً له‏:‏

أ - فإن كان الموهوبُ له أجنبيّاً عن المريض‏,‏ وقبض العين الموهوبة‏,‏ والمريض الواهب غير مدين‏,‏ فيفرّق بين ما إذا لم يكن للواهب وارث وبين ما إذا كان له وارث‏.‏

فإن لم يكن له وارث‏,‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إنّ هذه الهبة صحيحة نافذة‏,‏ ولو استغرقت كلّ ماله‏,‏ ولا تتوقّف على إجازة أحد‏.‏

وقال الشّافعيّة والمالكيّة‏:‏ تبطل الهبة فيما زاد على ثلث مال المريض‏,‏ لأنّ ماله ميراث للمسلمين‏,‏ ولا مجيز له منهم‏,‏ فبطلت‏.‏

أمّا إذا كان للمريض ورثة‏,‏ فقد اتّفق الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على نفاذ هبة المريض في هذه الصورة إن حملها ثلث ماله‏,‏ أمّا إذا زادت على الثلث‏,‏ فيتوقّف القدر الزّائد منها على إجازة الورثة‏,‏ فإن أجازوه نفذ‏,‏ وإن ردوه بطل‏.‏

وتعتبر إجازتهم لو وقعت تنفيذاً وإمضاءً لهبة مورّثهم‏,‏ إلّا على قول للشّافعيّ‏,‏ وقول مشهور عند المالكيّة‏,‏ حيث اعتبراها ابتداءً عطيّة منهم‏.‏

واستدلّ الفقهاء على اعتبار هبة المريض للأجنبيّ من ثلث ماله كالوصيّة بما روي عن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي اللّه عنه قال‏:‏ « عادني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجّة الوداع من شكوى أشفيتُ منها على الموت، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلّا ابنة لي واحدة، أفأتصدّق بثلثي مالي‏؟‏ قال‏:‏ لا، قلت‏:‏ فبشطره‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال الثلث كثير »‏.‏

قال الطّحاوي‏:‏ ففي هذا الحديث جعل صدقته في مرضه من الثلث‏,‏ كوصاياه من الثلث بعد موته‏.‏

أمّا إذا وهب المريض غير المدين لوارثه شيئاً من ماله‏,‏ وأقبضه إيّاه‏,‏ فيفرّق بين ما إذا لم يكن للواهب المريض وارث سوى الموهوب له‏,‏ وبين ما إذا كان له وارث غيره‏.‏

فإن لم يكن له وارث سوى الموْهوب له‏,‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إنّ هذه الهبة صحيحةٌ نافذة‏,‏ ولا تتوقّف على إجازة أحد‏,‏ سواء كان الموهوب أقلّ من الثلث أم أكثر منه أمّا إذا كان للمريض ورثة غير الموهوب له فقال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة في الأظهر‏,‏ والمالكيّة والحنابلة‏:‏ تتوقّف الهبة على إجازة باقي الورثة‏,‏ سواء أكان الموهوب أقلّ من الثلث أم أكثر منه - كما في الوصيّة لوارث - فإن أجازها الورثة نفذت‏,‏ وإن ردوها بطلت‏.‏ وتعتبر إجازتهم تنفيذاً وإمضاءً لهبة مورّثهم عندهم إلّا على قول للشّافعيّ وقول مشهور عند المالكيّة وهو أنّها تعتبر ابتداءً عطيّةً‏.‏

وخالف في ذلك الإمام الشّافعي في غير الأظهر وقال‏:‏ هبة المريض المقبوضة لوارث باطلة مردودة‏.‏

ثانياً‏:‏ هبة المريض المدين المقبوضة

6 - إذا كان المريضُ الواهب مديناً‏,‏ فإمّا أن يكون دينه مستغرقاً لماله‏,‏ وإمّا أن يكون غير مستغرق‏:‏

فإن كان المريض مديناً بديْن مستغرق‏,‏ ووهب شيئاً من ماله‏,‏ وقبضه الموهوب له‏,‏ فلا تنفذ هبته‏,‏ سواء أكان الموهوبُ أقلّ من الثلث أم أكثر منه‏,‏ وسواء أكان الموهوب له أجنبيّاً من الواهب أو وارثاً له‏,‏ بل تتوقّف على إجازة الدّائنين‏,‏ فإن أجازوها نفذت‏,‏ وإن ردوها بطلت‏,‏ وقد جاء في مجلّة الأحكام العدليّة‏:‏ إذا وهب من استغرقت تركته بالديون أمواله لوارثه أو لغيره‏,‏ وسلّمها‏,‏ ثمّ توفّي‏,‏ فلأصحاب الديون إلغاء الهبة‏,‏ وإدخال أمواله في قسمة الغرماء‏.‏

أمّا إذا كان المريض الواهبُ مديناً بدين غير مستغرق‏,‏ وقبض الموهوب له المال الموهوب‏,‏ ففي هذه الحالة يخرج مقدار الديون من التّركة‏,‏ ويحكم على الهبة في المبلغ الزّائد بنفس الحكم عليها في حالة ما إذا كانت التّركة خاليةً عن الدّين‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ هبة ‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ هبة المريض غير المقبوضة

7 - إذا وهب المريض شيئاً من ماله‏,‏ ولم يقبض الموهوب له العين الموهوبة حتّى مات الواهب‏,‏ فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‏:‏

أحدهما للحنفيّة والشّافعيّة‏:‏ وهو أنّ الهبة تبطل في هذه الحالة لموت الواهب قبل القبض‏,‏ كما تبطل أيضاً لو كان الواهب صحيحاً وقت الهبة‏,‏ قالوا‏:‏ ولا تنقلب هبة المريض في هذه الحالة وصيّةً‏,‏ لأنّها صلة‏,‏ والصّلات يبطلها الموت كالنّفقات‏,‏ ولأنّ الواهب أراد التّمليك في الحال لا بعد الموت‏,‏ إذ الهبة من العقود الّتي تقتضي التّمليك المنجّز في الحياة‏.‏

قال الشّافعي‏:‏ إذا وهب الرّجل في مرضه الهبة‏,‏ فلم يقبضها الموهوب له حتّى مات الواهب‏,‏ لم يكن للموهوب له شيء‏,‏ وكانت الهبة للورثة‏.‏

وجاء في الفتاوى الهنديّة‏:‏ ولا تجوز هبة المريض ولا صدقته إلّا مقبوضةً‏,‏ فإذا قبضت جازت من الثلث‏,‏ وإذا مات الواهب قبل التّسليم بطلت‏.‏

والثّاني للمالكيّة وابن أبي ليلى‏:‏ وهو أنّ الهبة في هذه الحالة صحيحة‏,‏ وتأخذ حكم الوصيّة‏,‏ ولو أنّ الموهوب له لم يقبضها قبل موت الواهب المريض‏.‏

جاء في فتاوى عليش‏:‏ ما قولكم في هبة المريض وصدقته وسائر تبرعاته‏,‏ هل تحتاج لحيازة قبل موته‏,‏ كتبرعات الصّحيح‏,‏ أم لا‏؟‏ فأجبت‏:‏ لا تحتاج لحوز عنه قبل موته‏,‏ لأنّها كالوصيّة في الخروج من الثلث‏,‏ قال البنانيّ‏:‏ وأمّا المريض فتبرعاته نافذة من الثلث مطلقاً‏,‏ أشهد أم لا‏,‏ فلا يتوقّف مضي تبرعه على حوزٍ ولا على الإشهاد الّذي يقوم مقامه‏,‏ قال في المدوّنة‏:‏ وكل صدقة أو هبة أو حبس أو عطيّة بتله المريض لرجل بعينه أو للمساكين‏,‏ فلم تخرج من يده حتّى مات‏,‏ فذلك نافذ من ثلثه كوصاياه‏,‏ وهذا ما لم يكن ماله مستغرقاً بالدّين‏,‏ فإن كان مستغرقاً بطلت في أحد القولين‏,‏ واقتصر عليه ابن الحاجب‏.‏

أداء المريض حقوق اللّه الماليّة

8 - إذا أدّى الإنسان في مرض موته ما وجب عليه من الحقوق الماليّة للّه عزّ وجلّ‏,‏ فقد اختلف الفقهاء هل يعتبر ذلك من الثلث على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها للحنفيّة‏:‏ وهو أنّه يعتبر هذا الأداء من الثلث‏,‏ سواءٌ وجب مالاً من الابتداء كالزّكاة وصدقة الفطر‏,‏ أو صار مالاً في المآل‏,‏ كالفدية في الصّلاة والصّوم بسبب العجز‏,‏ فإن لم يؤدّه بنفسه لا يصير ديناً في التّركة بعد الموت مقدّماً على الميراث‏,‏ إلّا إذا أوصى بها‏.‏ والثّاني للشّافعيّة‏:‏ وهو أنّه إن أدّاه بنفسه كان معتبراً من جميع المال‏,‏ وإن لم يؤدّه يصير ديناً في جميع التّركة مقدّماً على الميراث‏.‏

والثّالث للمالكيّة‏:‏ وهو أنّه إن أدّاه بنفسه كان معتبراً من جميع المال‏,‏ وإن لم يؤدّه بنفسه‏,‏ فلا يجبر الورثة بعد موته على إخراجه من تركته مقدّماً على الميراث‏,‏ إلّا أن يتطوّعوا بذلك‏.‏

الرجوع عن هبة الموهوب له المريض

9 - إذا رجَعَ الواهبُ عن هبته والموهوب له مريض وقد كانت الهبة في الصّحّة‏,‏ قال الحنفيّة‏:‏ إن كان بقضاء قاض فالرجوع فيها صحيح‏,‏ ولا سبيل لغرماء الموهوب له وورثته بعد موته على الواهب ‏;‏ لأنّ الواهب يستحقّه بحقّ سابقٍ له على حقّهم‏,‏ وإن كان ذلك بغير قضاء قاض‏,‏ كان رد المريض لها حين طلب الواهب بمنزلة هبة مبتدأة من المريض‏,‏ وتسري على ذلك أحكام هبة المريض‏.‏

الكفالة بالمال في مرض الموت

إذا كفل المريض غيره بماله‏,‏ فإمّا أن يكون غير مدين‏,‏ وإمّا أن يكون مديناً‏.‏

أوّلاً‏:‏ كفالة المريض غير المدين

10 - قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ كفالة المريض بماله ديناً لشخص على آخر تعتبر تبرعاً بالتزام مال لا يلزمه‏,‏ ولم يأخذ عنه عوضاً‏,‏ وهي استهلاك لمال المريض‏,‏ فتأخذ حكم الوصيّة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ يفرّق في حكم كفالة المريض غير المدين بين ما إذا كان كل من المكفول له‏,‏ وهو الدّائن‏,‏ والمكفول عنه‏,‏ وهو المدين‏,‏ أجنبيّاً عن المريض‏,‏ وبين ما إذا كان أحدهما وارثاً له‏:‏

أ - فإذا كفل المريض ديناً لشخص على آخر‏,‏ وكان كل من المكفول له وعنه أجنبيّاً عن المريض‏,‏ نفذت الكفالة من كلّ مال المريض إذا لم يكن له وارث‏,‏ وللدّائن الحقّ في أخذ الدّين المضمون به من تركته‏,‏ ولو استغرق ذلك الدّين كلّ التّركة‏,‏ وليس لأحد حق في معارضته‏.‏

أمّا إذا كان للمريض ورثةٌ‏,‏ فينظر‏:‏ فإن كان المال المضمون به لا يتجاوز ثلث ماله‏,‏ نفذ وإن لم يجزه الورثة‏,‏ وإن تجاوز الثلث توقّف القدر الزّائد على إجازتهم‏,‏ فإن ردوه بطل‏,‏ وإن أجازوه نفذ‏,‏ لأنّ المنع كان لحقّهم وقد أسقطوه‏,‏ فيزول المانع‏.‏

ب - أمّا إذا كان المكفول له أو عنه وارثاً‏,‏ ولم يكن للمريض الضّامن وارث سواه‏,‏ فإنّ الكفالة تنفذ من كلّ مال المريض‏,‏ ولا اعتراض لأحد عليه‏.‏

أمّا إذا كان له ورثة غيره‏,‏ فلا تنفذ هذه الكفالة إلّا إذا أجازها الورثة وكانوا من أهل التّبرع‏,‏ سواء أكان الدّين المكفول به قليلاً أم كثيراً‏,‏ فإن أجازت الورثة ثبت للمكفول له أخذ الدّين من التّركة‏,‏ وإن لم يجيزوها فلا حقّ له في أخذ شيء منها‏,‏ بل يأخذ دينه من المدين الأصليّ‏,‏ وهو المكفول عنه‏.‏

ثانياً‏:‏ كفالة المريض المدين

11 - يفرّق في كفالة المريض المدين بماله بين ما إذا كان دينه مستغرقاً لتركته‏,‏ وبين ما إذا كان غير مستغرق‏.‏

أ - فإن كان دينه مستغرقاً لتركته‏,‏ فلا تنفذ كفالته‏,‏ ولو قلّ الدّين المكفول به‏,‏ إلّا إذا أبرأه الدّائنون الّذين تعلّق حقّهم بأمواله قبل هذه الكفالة من المال المكفول به‏,‏ لأنّ الحقّ لهم‏,‏ ولهم أن يسقطوه برضاهم‏.‏

ب - أمّا إذا كان دينه غير مستغرق لتركته‏,‏ ففي هذه الحالة يخرج من التّركة مقدار الديون الثّابتة على المريض‏,‏ ويحكم على الكفالة بالمبلغ الزّائد على الدّين بنفس الحكم على الكفالة في حالة خلوّ التّركة عن الديون‏.‏

وقال الكاساني‏:‏ ولو كفل في صحّته‏,‏ وأضاف ذلك إلى ما يستقبل‏,‏ بأن قال للمكفول له‏:‏ كفلت بما يذوب لك على فلان‏,‏ ثمّ وجب له على فلان دين في حال مرض الكفيل‏,‏ فحكم هذا الدّين وحكم دين الصّحّة سواء‏,‏ حتّى يضرب المكفولُ له بجميع ما يضربُ به غريمُ الصّحّة‏,‏ لأنّ الكفالة وجدت في حال الصّحّة‏.‏

وجاء في فتاوى قاضيخان‏:‏ وإن أقرّ المريض أنّ الكفالة بذلك كانت في صحّته‏,‏ لزمه جميع ذلك في ماله إذا لم تكن الكفالة لوارث ولا عن وارث‏,‏ لأنّ إقرار المريض بأنّ الكفالة كانت في صحّته إقرار منه بمال كان سببه في الصّحّة‏,‏ فيكون بمنزلة الإقرار بالدّين‏,‏ فصحّ إذا كان المكفول له أجنبيّاً ولم يكن عليه دين محيط بماله‏.‏

وجاء في م ‏(‏ 1605 ‏)‏ من مجلّة الأحكام العدليّة‏:‏ إذا أقرّ في مرض موته بكونه قد كفل في حال صحّته‏,‏ فيعتبر إقراره من مجموع ماله‏,‏ ولكن تقدّم ديون الصّحّة إن وجدت‏.‏

الوقف في مرض الموت

يفرّق في الوقف بين ما إذا كان المريض الواقف غير مدين وبين ما إذا كان مديناً‏:‏

أوّلاً‏:‏ وقف المريض غير المدين

إذا وقف المريض غير المدين ماله أو شيئاً منه‏:‏ فإمّا أن يكون وقفه على أجنبيٍّ‏,‏ وإمّا أن يكون على وارث‏:‏

أ - وقف المريض غير المدين على أجنبيٍّ‏:‏

12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ وقف المريض غير المدين شيئاً من ماله على أجنبيٍّ عنه أو على جهة من جهات البرّ صحيح نافذ لا يتوقّف على إجازة أحد إن كان مقدار الوقف لا يزيد على ثلث التّركة عند موت الواقف‏.‏

أمّا إذا كان مقدار الموقوف زائداً على الثلث‏,‏ فينفذ الوقف في قدر الثلث‏,‏ ويتوقّف في القدر الزّائد على إجازة الورثة‏.‏

ب - وقف المريض غير المدين على الوارث‏:‏

13 - إن كان وقفه على جميع الورثة‏,‏ ثمّ على أولادهم‏,‏ ثمّ على جهة بر لا تنقطع‏,‏ فينظر إن أجاز الورثة جميعاً هذا الوقف نفذ‏,‏ سواء كان الموقوف يخرج من ثلث تركته أم كان أكثر منه‏.‏

وإن لم يجيزوه نفذ وقف ما يخرج من الثلث‏.‏

وإن أجازه بعض الورثة دون بعض‏,‏ كانت حصّة المجيز وقفاً مع الثلث‏.‏

وإن كان وقف المريض غير المدين على بعض ورثته‏,‏ فقد اختلف الفقهاء في وقفه على مذاهب‏,‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ وقف ‏)‏‏.‏

ج - وقف المريض المدين‏:‏

14 - إذا وقف المريضُ ماله أو شيئاً منه‏,‏ ومات وهو مدين بدين مستغرق لتركته‏,‏ فإنّه يتوقّف وقفه كله على إجازة الدّائنين‏,‏ سواء أكان الموقوف عليه وارثاً أم غير وارث‏,‏ وسواء أكان الموقوف أقلّ من الثلث أم مساوياً له أم أكثر منه‏,‏ فإن أجازوه نفذ‏,‏ وإن لم يجيزوه بطل الوقف‏,‏ وبيعت الأعيان الموقوفة لوفاء ما عليه من الديون‏.‏

وأمّا إذا وقف المريض شيئاً من ماله‏,‏ وكان مديناً بدين غير مستغرق لتركته‏,‏ فيخرج مقدار الدّين من التّركة‏,‏ ويحكم على الوقف في الباقي من التّركة بعد الإخراج بالحكم على الوقف عندما تكون التّركة خاليةً من الديون‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ وقف ‏)‏‏.‏

التّصرفات الماليّة في مرض الموت

للتّصرفات الماليّة في مرض الموت أحكام منها‏:‏

أوّلاً‏:‏ البيع في مرض الموت

أ - بيع المريض غير المدين ماله لأجنبيّ‏:‏

15 - اتّفق الفقهاء على أنّ المريض إذا باع شيئاً من أعيان ماله لأجنبيّ بثمن المثل أو بما يتغابن النّاس بمثله‏,‏ فبيعه صحيح نافذ على البدل المسمّى‏,‏ لأنّ المريض غير محجور عن المعاوضة المعتادة الّتي لا تمس حقوق دائنيه وورثته‏.‏

أمّا إذا باعه مع المحاباة‏:‏

فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا باع المريض شيئاً من ماله لأجنبيّ وحاباه في البيع‏.‏

فإن كانت المحاباة بحيث يحملها الثلث‏,‏ فإنّ البيع صحيح ونافذ على البدل المسمّى‏,‏ لأنّ المريض له أن يتبرّع لغير وارثه بثلث ماله‏,‏ويكون هذا التّبرع نافذاً‏,‏ وإن لم يجزه الورثة‏.‏ أمّا إذا كانت المحاباة أكثر من ثلث ماله‏,‏ فإن أجازها الورثة نفذت‏,‏ لأنّ المنع كان لحقّهم‏,‏ وقد أسقطوه‏,‏ وإن لم يجيزوها‏,‏ فإن لم يكن البدلان من جنس واحد من الأموال الرّبويّة وزادت المحاباة على الثلث‏,‏ ولم يجزها الورثة‏,‏ فيخيّر المشتري بين أن يدفع للورثة قيمة الزّائد على الثلث ليكمل لهم الثلثين‏,‏ وبين أن يفسخ البيع ويردّ المبيع إلى الورثة ويأخذ ما دفعه من الثّمن إن كان الفسخ ممكناً‏,‏ أمّا إذا تعذّر الفسخ - كما إذا هلك المبيع تحت يده أو أخرجه عن ملكه - ألزم بإتمام الثّمن إلى أن يبلغ القيمة‏.‏

وأمّا إذا كان البدلان من جنس واحد من الأموال الرّبويّة غير النّقدين‏,‏ وكانت المحاباة بأكثر من ثلث ماله‏,‏ ولم يجزها الورثة‏,‏ فليس للورثة أن يلزموا المشتري بأن يدفع لهم الزّائد على الثلث أو يفسخ البيع‏,‏ لأنّ هذا يؤدّي إلى ربا الفضل‏,‏ لهذا ينسب الثلث إلى المحاباة‏,‏ ويصح البيع بقدر النّسبة ويبطل فيما عداها‏,‏ والمشتري بالخيار بين فسخ العقد لتفرق الصّفقة عليه‏,‏ وبين الرّضا بالبيع في القدر الباقي‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا باع المريض ماله لأجنبيّ بأقلّ من ثمن المثل وممّا يتغابن النّاس بمثله‏:‏ فإن قصد ببيعه ماله بأقلّ من قيمته بكثير نفع المشتري‏,‏ فما نقص عن القيمة يعتبر محاباةً حكمها حكم الوصيّة للأجنبيّ‏,‏ تنفذ من ثلث ماله إن حملها الثلث‏,‏ وتبطل في القدر الزّائد على الثلث إن لم يجزها الورثة‏,‏ وإن أجازوها جازت‏,‏ وتكون ابتداءً عطيّةً منهم تفتقر إلى الحوز‏,‏ والوقت المعتبر في تقدير قيمة المبيع هو وقت البيع‏,‏ لا وقت موت البائع‏.‏

أمّا إذا لم يقصد ببيعه ماله بأقلّ من قيمته بكثير نفع المشتري‏,‏ كأن وقع منه ذلك جهلاً بقيمته‏,‏ فهو غبن يصح معه البيع على البدل المسمّى وينفذ‏,‏ ولا يعتبر النقصان عن ثمن المثل من الثلث مهما بلغ على المشهور المعمول به‏.‏

وقال الشّافعي‏:‏ إذا باع المريض شيئاً من أعيان ماله للأجنبيّ‏,‏ وحاباه في البدل‏,‏ فحكم هذه المحاباة حكم الوصيّة للأجنبيّ‏,‏ تنفذ من ثلث ماله‏,‏ وما زاد عن الثلث يتوقّف على إجازة الورثة‏,‏ فإن أجازوها نفذت‏,‏ وإلّا خيّر المشتري بين ردّ المبيع إن كان قائماً‏,‏ ويأخذ ثمنه الّذي دفعه‏,‏ وبين أن يعطي الورثة الفضل عمّا يتغابن النّاسُ بمثله ممّا لم يحمله الثلث‏,‏ وإن كان المبيع هالكاً‏,‏ ردّ الزّيادة على ما يتغابن النّاس بمثله ممّا لم يحمله الثلث‏,‏ وكذا إذا كان المبيع قائماً‏,‏ لكنّه قد دخله عيب‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا حابى المريض أجنبيّاً في البيع فالبيع صحيح‏,‏ وتنفذ المحاباة من ثلث ماله إن حملها‏.‏

أمّا إذا كانت أكثر من الثلث‏:‏ فإن أجازها الورثة نفذت‏,‏ وإن لم يجيزوها - فإن لم يكن البدلان من جنس واحد من الأموال الرّبويّة‏,‏ وزادت المحاباة على الثلث - بطل البيع في قدر الزّيادة على الثلث‏,‏ وسلّم للمشتري الباقي‏,‏ وكان بالخيار بين فسخ البيع لتفرق الصّفقة عليه وبين أن يأخذ ما سلّم له من المبيع‏.‏

أمّا إذا كان البدلان من جنس واحد من الأموال الرّبويّة غير الثّمنين‏,‏ وزادت المحاباة على الثلث‏,‏ ولم يجزها الورثة‏,‏ فينسب الثلث إلى المحاباة‏,‏ ويصح البيع بقدر النّسبة‏,‏ ويبطل فيما عداها‏,‏ والمشتري بالخيار بين فسخ البيع لتفرق الصّفقة عليه‏,‏ وبين الرّضا بالبيع في القدر الباقي‏,‏ وإنّما فعل ذلك لئلّا يفضي إلى الرّبا‏.‏

قال المرداوي‏:‏ وإن باع مريض قفيزاً لا يملك غيره يساوي ثلاثين بقفيز يساوي عشرةً‏,‏ فأسقط قيمة الرّديء من قيمة الجيّد‏,‏ ثمّ نسب الثلث إلى الباقي وهو عشرة من عشرين تجده نصفها‏,‏ فيصح البيع في نصف الجيّد بنصف الرّديء‏,‏ ويبطل فيما بقي‏,‏ وهذا بلا نزاع‏.‏

ب - بيع المريض المدين ماله لأجنبيّ‏:‏

16 - إذا باع المريض شيئاً من ماله لأجنبيّ بثمن المثل‏,‏ وكان مديناً بدين مستغرق فإنّ البيع صحيح نافذ على العوض المسمّى‏,‏ ولا حقّ للدّائنين في الاعتراض عليه‏,‏ لأنّ حقّهم متعلّق بماليّة التّركة لا بأعيانها‏,‏ والمدين وإن كان قد أخرج شيئاً من ملكه بهذا البيع إلّا أنّه قد أدخل فيه ما يقابله من الثّمن المساوي لقيمته‏.‏

أمّا إذا كان في البيع محاباة للمشتري‏,‏ فلا تنفذ المحاباة سواءً أكانت قليلةً أم كثيرةً إلّا بإجازة الدّائنين‏,‏ لتعلق حقّهم بماله‏,‏ فإن لم يجيزوا خيّر المشتري بين أن يبلغ المبيع تمام قيمته‏,‏ ولا اعتراض للدّائنين عليه‏,‏ إذ لا ضرر يلحقهم‏,‏ وبين فسخ العقد وأخذ ما دفعه من الثّمن إن كان الفسخ ممكناً‏,‏ أمّا إذا تعذّر الفسخ‏,‏ كما إذا هلك المبيع تحت يده أو أخرجه عن ملكه ألزم بإتمام الثّمن إلى أن يبلغ القيمة‏.‏

وإذا باع المريض شيئاً من ماله لأجنبيّ بثمن المثل‏,‏ وكان مديناً بدين غير مستغرق لماله‏,‏ صحّ البيع ونفذ على البدل المسمّى‏,‏ أمّا إذا كان فيه محاباة‏,‏ فيخرج مقدار الدّين من التّركة‏,‏ ويأخذ هذا البيع حكم البيع فيما لو كان المريض غير مدين أصلاً بالنّسبة للمبلغ الباقي بعد الإخراج‏.‏

ج - بيع المريض ماله لوارث‏:‏

إذا باع المريض شيئاً من ماله لوارثه‏,‏ فإمّا أن يكون المريض البائع غير مدين‏,‏ وإمّا أن يكون مديناً‏:‏

بيع المريض غير المدين ماله لوارث

17 - ذهب أبو يوسف ومحمّد بن الحسن وابن أبي ليلى‏:‏ إلى أنّه إن باع المريض وارثه عيناً من ماله بمثل القيمة أو بما يتغابن النّاس بمثله‏,‏ فإنّ بيعه يكون صحيحاً نافذاً‏,‏ لأنّه ليس فيه إبطال لحقّ الورثة عن شيء ممّا يتعلّق به حقّهم‏,‏ وهو الماليّة‏,‏ فكان الوارث والأجنبي في ذلك سواءً‏.‏

أمّا إذا باع المريض وارثه عيناً من ماله وحاباه في الثّمن‏,‏ فإنّ البيع يتوقّف على إجازة الورثة‏,‏ سواء حمل ثلث ماله هذه المحاباة أم لم يحملها‏,‏ فإن أجازوه نفذ‏,‏ وإلّا خيّر الوارث بين أن يبلغ المبيع تمام القيمة‏,‏ وعندها يسقط حقّ الورثة في الاعتراض عليه‏,‏ وبين أن يفسخ البيع‏,‏ ويردّ المبيع إلى التّركة‏,‏ ويستلم الثّمن الّذي دفعه للمورّث‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ البيع يكون موقوفاً على إجازة باقي الورثة‏,‏ فإن أجازوه نفذ‏,‏ وإن ردوه بطل‏,‏ سواء أكان البدل مساوياً لمثل القيمة أم كان فيه محاباة‏.‏

وهو القول الرّاجح في المذهب الحنفيّ‏,‏ وبه قال أبو الخطّاب من الحنابلة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا باع المريض وارثه شيئاً من ماله دون محاباة فالبيع جائز ونافذ على البدل المسمّى‏.‏

أمّا إذا حابى المريض وارثه في البيع‏,‏ فإن حاباه في الثّمن كأن باعه بمائة ما يساوي مائتين مثلاً‏,‏ فالبيع باطل بقدر المحاباة كلّها إن لم يجزها الورثة‏,‏ ولا تعتبر المحاباة من الثلث‏,‏ ويصح البيع وينفذ فيما عداها‏,‏ وتعتبر إجازة الورثة للقدر المحابى به ابتداءً عطيّةً منهم تفتقر إلى حوز‏,‏ قالوا‏:‏ والمعتبر في تقدير محاباته ليوم البيع لا ليوم الحكم‏,‏ ولا عبرة بتغير الأسواق بعد ذلك بزيادة أو نقص‏.‏

أمّا إذا حابى المريض وارثه في عين المبيع‏,‏ كأن يقصد إلى خيار ما يملكه فيبيعه من ولده‏,‏ ففي هذه الحالة يكون لورثته نقض ذلك البيع‏,‏ ولو كان بثمن المثل أو أكثر‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجوز للمريض أن يبيع ما شاء من أعيان ماله إلى أيّ شخص من ورثته‏,‏ وينفذ بيعه على العوض المسمّى إذا كان البيع بمثل القيمة أو بما يتغابن النّاس بمثله‏,‏ أمّا إذا كان في البدل محاباة للوارث‏,‏ فحكم هذه المحاباة حكم الوصيّة للوارث حيث إنّ الأظهر عند الشّافعيّة أنّ الوصيّة للوارث تكون موقوفةً على إجازة الورثة‏,‏ فإن أجازوها نفذت‏,‏ وإن لم يجيزوها بطلت‏,‏ فيبطل البيع في قدر هذه المحاباة‏,‏ قال الرّملي‏:‏ المرض إنّما يمنع المحاباة‏,‏ ولا يمنع الإيثار‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يجوز للمريض أن يبيع ما شاء من ماله لوارثه‏,‏ وينفذ بيعه إذا كان بثمن المثل‏.‏

أمّا إذا حابى وارثه في البيع‏,‏ فهناك ثلاثة أقوال في المذهب‏:‏

أحدها‏:‏ لا يصح البيع‏,‏ لأنّ المشتري بذل الثّمن في كلّ المبيع‏,‏ فلم يصحّ في بعضه‏,‏ كما لو قال‏:‏ بعتك هذا الثّوب بعشرة‏.‏ فقال‏:‏ قبلت البيع في نصفه‏,‏ أو قال‏:‏ قبلت نصفه بخمسة‏,‏ ولأنّه لم يمكن تصحيح البيع على الوجه الّذي تعاقدا عليه‏,‏ فلم يصحّ كتفريق الصّفقة‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّه يصح فيما يقابل الثّمن المسمّى‏,‏ وتتوقّف المحاباة على إجازة الورثة‏,‏ فإن أجازوها نفذت‏,‏ وإن ردوها بطل البيع في قدر المحاباة وصحّ فيما بقي‏.‏

والثّالث‏:‏ أنّه يبطل البيع في قدر المحاباة‏,‏ ويصح فيما يقابل الثّمن المسمّى‏,‏ وللمشتري الخيار بين الأخذ والفسخ‏,‏ لأنّ الصّفقة تفرّقت عليه‏,‏ قالوا‏:‏ وإنّما حكمنا بالصّحّة في ذلك القدر ‏;‏ لأنّ البطلان إنّما جاء من المحاباة‏,‏ فاختصّ بما يقابلها‏,‏ وهذا هو القول الصّحيح في المذهب‏.‏

بيع المريض المدين ماله لوارث

18 - اتّفق أبو حنيفة وأصحابه على أنّ المريض المدين بدين مستغرق إذا باع ماله لوارث بثمن المثل‏,‏ فإنّ البيع صحيح نافذ على البدل المسمّى‏,‏ ولا حقّ للدّائنين في الاعتراض عليه‏,‏ لأنّ حقّهم متعلّق بماليّة التّركة لا بأعيانها‏,‏ والمريض وإن كان قد أخرج شيئاً من ملكه بهذا البيع إلّا أنّه قد أدخل فيه ما يقابله من الثّمن المساوي لقيمته‏.‏

أمّا إذا كان في بيع المريض المدين محاباة للوارث في البدل‏,‏ فلا تنفذ المحاباة سواء أكانت قليلةً أم كثيرةً إلّا بإجازة الدّائنين‏,‏ فإن أجازوها نفذت‏,‏ وإن ردوها خيّر المشتري بين أن يبلغ المبيع تمام قيمته‏,‏ ولا اعتراض للدّائنين‏,‏ وبين فسخ البيع وأخذ ما دفعه من الثّمن إن كان الفسخ ممكناً‏,‏ أمّا إذا تعذّر لهلاك المبيع تحت يده ونحو ذلك‏,‏ فيلزم المشتري بإتمام الثّمن إلى أن يبلغ القيمة‏.‏

19 - ومثل البيع في كلّ الأحوال المتقدّمة الشّراء‏,‏ فإذا اشترى المريض مرض الموت من وارثه الصّحيح أو من أجنبيٍّ وكان غير مدين أو كان مديوناً اتّبعت نفسُ الأحكام المتقدّمة في بيعه‏,‏ وقد جاء في الفتاوى الهنديّة‏:‏ صورة المحاباة أن يبيع المريض ما يساوي مائةً بخمسين‏,‏ أو يشتري ما يساوي خمسين بمائة‏,‏ فالزّائد على قيمة المثل في الشّراء والنّاقص في البيع محاباة‏.‏

ثانياً‏:‏ الإجارة في مرض الموت

20 - إذا أجّر المريض شيئاً من ماله بأجرة المثل فلا خلاف بين الفقهاء في صحّة إجارته ونفاذها على البدل المسمّى‏.‏

أمّا إذا حابى المريض المستأجر في البدل‏,‏ بأن أجّره بأقلّ من أجرة المثل‏,‏ فلفقهاء الحنفيّة في ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو الرّاجح المعتمد في المذهب‏:‏ وهو أنّ الإجارة صحيحة نافذة على البدل المسمّى‏,‏ وتعتبر المحاباة من رأس المال لا من الثلث‏.‏

واستدلوا على ذلك بأنّ الإجارة تبطل بموت أحد العاقدين‏,‏ فلا يبقى على الورثة ضرر فيما بعد الموت‏,‏ لأنّ الإجارة لمّا بطلت بالموت‏,‏ صارت المنافع مملوكةً لهم وفي حياته لا ملك لهم‏,‏ فلا ضرر عليهم فيما يستوفيه المستأجر حال حياة المؤجّر‏,‏ ولأنّ حقّ الغرماء والورثة إنّما يتعلّق بمال المريض الّذي يجري فيه الإرث كأعيان التّركة‏.‏

أمّا ما لا يجري فيه الإرث كالمنافع فلا يتعلّق حقّهم بها‏,‏فيكون تبرعه بها نافذاً من كلّ ماله‏.‏

الثّاني‏:‏ وبه قال بعض الحنفيّة‏,‏ وهو أنّ هذه المحاباة تأخذ حكم الوصيّة‏,‏ لأنّه قد يتحقّق بها الإضرار بالورثة‏,‏ كما لو أجّر المريض ما أجّرته مائةً بأربعين مدّةً معلومةً‏,‏ وطال مرضه بقدر مدّة الإجارة فأكثر‏,‏ بحيث استوفى المستأجر المنافع في مدّة إجارته في القدر الّذي حابى به وهو ستون‏,‏ فكان القياس أن تعتبر هذه المحاباة كالوصيّة‏.‏

ثالثاً‏:‏ الزّواج في مرض الموت

21 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حكم الزّواج في حال مرض الموت والصّحّة سواء‏,‏ من حيث صحّة العقد وتوريث كلّ واحد من الزّوجين صاحبه‏.‏

واستدلوا بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ‏}‏ وبما ورد عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنّه قال‏:‏ ‏"‏ لو لم يبق من أجلي إلّا عشرة أيّام وأعلم أنّي أموت في آخرها يوماً، لي فيهنّ طول النّكاح، لتزوّجت مخافة الفتنة ‏"‏‏.‏

وبما روى ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه أنّه قال في مرضه الّذي مات فيه‏:‏ زوّجوني‏,‏ إنّي أكره أن ألقى اللّه عزّ وجلّ عزباً‏.‏

فإذا ثبتت صحّة الزّواج في مرض الموت ثبت التّوارث بين الزّوجين لعموم آية الميراث بين الأزواج‏.‏

ثمّ اختلفوا بعد ذلك فيما يثبت للزّوجة الّتي عقد عليها المريض من المهر‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ مهر ‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ الطّلاق في مرض الموت

22 - إذا طلّق الرّجل زوجته في مرض موته‏,‏ فالطّلاق واقع‏,‏ سواء طلّقها طلقةً واحدةً أو بائنةً‏,‏ دخل بها أو لم يدخل باتّفاق الفقهاء‏,‏ إلّا ما روي عن الشّعبيّ أنّه قال‏:‏ لا يقع طلاق المريض‏.‏

ومع قول عامّة الفقهاء بوقوع طلاق المريض‏,‏ فقد اختلفوا في ثبوت التّوارث بينهما بعده‏,‏ ووجوب العدّة عليها‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ طلاق ف / 66 ‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ الإبراء في مرض الموت

23 - إذا أبرأ المريض غير المدين مديناً له ممّا له عليه من دين فإمّا أن يكون المبرأ أجنبيّاً وإمّا أن يكون وارثاً‏:‏

أ - فإن كان أجنبيّاً‏,‏ فقد قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا أبرأ المريض مدينه الأجنبيّ من دين له عليه لا يتجاوز ثلث مال المريض‏,‏ فإنَّ الإبراء صحيح نافذ‏,‏ أمّا إذا كان أكثر من الثلث‏,‏ فإنّ الزّائد على الثلث يكون موقوفاً على إجازة الورثة فإن أجازوه نفذ - لأنّ المنع كان لحقّهم وقد أسقطوه - وإن ردوه بطل‏.‏

أمّا إذا لم يكن للمريض وارث‏,‏ فقد قال الحنفيّة‏:‏ ينفذ إبراؤُه للأجنبيّ‏,‏ ولو استغرق كلّ ماله‏,‏ ولا حقّ لأحد في المعارضة‏.‏

ب - أمّا إذا كان وارثاً‏,‏ فقد قال الحنفيّة‏:‏ إذا أبرأ المريض وارثه من دينه‏,‏ وكان المريض غير مدين‏,‏ فإنّ إبراءه يتوقّف على إجازة سائر الورثة‏,‏ سواء أكان الدّين الّذي أبرأه منه قليلاً أم كثيراً‏,‏ فإن أجازوه نفذ‏,‏ وإن ردوه بطل‏.‏

أمّا إذا لم يكن للمريض وارث سوى المبرأ من الدّين‏,‏ فإنّ الإبراء ينفذ ولو استغرق جميع المال‏,‏ لأنّ المنع كان لحقّ الورثة‏,‏ ولم يوجدوا‏,‏ فينفذ‏.‏

24 - وإن كان المريض مديناً بدين مستغرق لتركته‏,‏ فقد قال الحنفيّة‏:‏ يتوقّف إبراء المريض مدينه في هذه الحالة على إجازة الدّائنين‏,‏ سواء أكان الدّين الّذي أبرأ منه قليلاً أم كثيراً‏,‏ لأنّهم أصحاب الحقوق في ماله‏,‏ فإن أجازوه نفذ‏,‏ وإن ردوه بطل‏,‏ ولا فرق بين أن يكون المبرأ وارثاً للمريض أو غير وارث‏.‏

أمّا إذا أبرأ المريض مدينه‏,‏ وكان المبرئ مديناً بدين غير مستغرق لتركته‏,‏ فيخرج من التّركة مقدار ما عليه من الدّين‏,‏ ويحكم على الإبراء في القدر الباقي بعد الدّين بالحكم على الإبراء حيث لا يكون المريض مديناً أصلاً‏.‏

سادساً‏:‏ الخلع في مرض الموت

25 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المخالعة في مرض الموت صحيحة ونافذة‏,‏ سواء أكان المريض الزّوج أو الزّوجة أو كليهما‏.‏

غير أنّهم اختلفوا فيما يثبت للزّوج من بدل الخلع إذا وقعت المخالعة في المرض‏,‏ كما اختلفوا في ثبوت التّوارث بينهما في هذه الواقعة‏,‏ مع تفريقهم بين ما إذا كان الزّوج المخالع هو المريض‏,‏ وبين ما إذا كانت الزّوجة المخالعة هي المريضة‏.‏

وبيان ذلك في مصطلح ‏(‏ خلع ف / 18 - 19 ‏)‏‏.‏

سابعاً‏:‏ الإقرار في مرض الموت

26 - إقرار المريض مرض موت بالحدّ والقصاص مقبول اتّفاقاً‏,‏ وكذا إقراره بدين لأجنبيّ‏,‏ فإنّه ينفذ من كلّ ماله ما لم يكن عليه ديون أقرّ بها في حال صحّته عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏,‏ وأصح الرّوايات عند الحنابلة‏,‏ وهو المذهب عندهم‏.‏

وأمّا إقرار المريض لوارث فهو باطل إلّا أن يصدّقه الورثة أو يثبت ببيّنة عند الحنفيّة والمذهب عند الحنابلة‏,‏ وفي قول عند الشّافعيّة‏.‏

وعند المالكيّة إن كان متّهماً في إقراره‏,‏ كأن يقرّ لوارث قريب مع وجود الأبعد أو المساوي لم يقبل‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ إقرار ف / 24‏,‏ 25 ‏)‏‏.‏

27 - وأمّا الإقرار باستيفاء الدّين في مرض الموت فقد قال الحنفيّة‏:‏

إقرار المريض باستيفاء دين وجب له على غيره‏,‏ لا يخلو من أحد وجهين‏:‏

إمّا أن يكون إقراراً باستيفاء دين وجب له على أجنبيٍّ‏,‏ وإمّا أن يكون إقراراً باستيفاء دين وجب له على وارث‏:‏

أ - فإذا أقرّ المريض باستيفاء دين وجب له على أجنبيٍّ‏,‏ فإمّا أن يكون الدّين المقر باستيفائه وجب له في حال الصّحّة أو في حال المرض‏.‏

فإن كان الدّين الّذي أقرّ المريض باستيفائه قد وجب له في حال الصّحّة‏,‏ فيصح إقراره‏,‏ ويصدّق فيه‏,‏ ويبرأ الغريم من الدّين سواء أكان الدّين الواجب في حال الصّحّة بدلاً عمّا ليس بمال‏,‏ كأرش الجناية وبدل الصلح عن دم العمد‏,‏ أو كان بدلاً عمّا هو مال‏,‏ نحو بدل القرض وثمن المبيع‏,‏ وسواء أكان عليه دين صحّة أم لم يكن‏.‏

أمّا إذا كان الدّين الّذي أقرّ المريض باستيفائه قد وجب له في حالة المرض‏,‏ فيفرّق بين ما إذا وجب له بدلاً عمّا هو مال للمريض وبين ما إذا وجب له بدلاً عمّا ليس بمال للمريض‏:‏ فإن كان الدّين المقر باستيفائه قد وجب للمريض بدلاً عمّا هو مال له كثمن المبيع وبدل القرض‏,‏ فلا يصح إقراره في حقّ غرماء الصّحّة‏,‏ ويجعل ذلك منه إقراراً بالدّين‏,‏ لأنّه لمّا مرض فقد تعلّق حقّ الغرماء بالمبدل‏,‏ لأنّه مال‏,‏ فكان البيع والقرض إبطالاً لحقّهم عن المبدل‏,‏ إلّا أن يصل البدل إليهم‏,‏ فيكون مبدلاً معنىً لقيام البدل مقامه‏,‏ فإذا أقرّ بالاستيفاء فلا وصول للبدل إليهم‏,‏ فلم يصحّ إقراره بالاستيفاء في حقّهم‏,‏ فبقي إقراراً بالدّين‏,‏ حيث إنّ الإقرار بالاستيفاء إقرار بالدّين‏,‏ لأنّ كلّ من استوفى ديناً من غيره‏,‏ يصير المستوفى ديناً في ذمّة المستوفي‏,‏ ثمّ تقع المقاصّة‏,‏ فكان الإقرار بالاستيفاء إقراراً بالدّين‏,‏ وإقرار المريض بالدّين وعليه دين الصّحّة لا يصح في حقّ غرماء الصّحّة ولا ينفذ‏.‏

ويتفرّع على هذا‏,‏ ما لو أتلف شخص للمريض شيئاً من ماله في مرضه‏,‏ فأقرّ المريض بقبض القيمة منه‏,‏ فلا يصدّق في ذلك إن كان عليه دين الصّحّة‏,‏ لأنّ الحقّ كان متعلّقاً بالمبدل فيتعلّق بالبدل‏.‏

أمّا إذا كان الدّين المقر باستيفائه قد وجب للمريض في حالة مرضه بدلاً عمّا هو ليس بمال له‏,‏ كأرش الجناية أو بدل الصلح عن دم العمد‏,‏ فيصح إقراره بالاستيفاء‏,‏ ويبرأ الغريم من الدّين‏,‏ لأنّ هذا الإقرار باستيفاء الدّين ليس فيه مساس بحقّ الغرماء‏,‏ لأنّ حقّهم لا يتعلّق في المرض بالمبدل في هذه الحالة - وهو النّفس - لأنّه لا يحتمل التّعلق‏,‏ لأنّه ليس بمال‏,‏ فلا يتعلّق ببدله‏,‏ وإذا لم يتعلّق حقّهم به‏,‏ فلا يكون في الإقرار باستيفاء هذا الدّين إبطال لحقّ الغرماء‏,‏ فينفذ مطلقاً‏.‏

ب - أمّا إذا أقرّ المريض باستيفاء دين وجب له على وارث فلا يصح إقراره‏,‏ سواء وجب بدلاً عمّا هو مال‏,‏ أو بدلاً عمّا ليس بمال‏,‏ لأنّه إقرار بالدّين‏,‏ لمّا بيّنّا أنّ استيفاء الدّين يكون بطريق المقاصّة‏,‏ وهو أن يصير المستوفى ديناً في ذمّة المستوفي‏,‏ فكان إقراره بالاستيفاء إقراراً بالدّين‏,‏ وإقرار المريض بالدّين لوارثه باطل إن لم يجزه باقي الورثة‏.‏ جاء في كشف الأسرار‏:‏ لا يصح إقرار المريض باستيفاء دينه الّذي له على الوارث منه‏,‏ وإن لزم الوارث الدّين في حال صحّة المقرّ‏,‏ لأنّ هذا إيصاء له بماليّة الدّين من حيث المعنى‏,‏ فإنّها تسلّم له بغير عوض‏.‏

ومثل ذلك في الحكم ما لو كان وارثه كفيلاً عن أجنبيٍّ‏,‏ للمريض عليه دين‏,‏ أو كان الأجنبي كفيلاً عن وارثه الّذي له عليه دين‏,‏ فلا يصح إقراره باستيفائه‏,‏ لتضمنه براءة ذمّة الوارث عن الدّين أو عن الكفالة‏.‏

ويتفرّع على هذا‏,‏ أنّه إذا تزوّج امرأةً فأقرّت في مرض موتها أنّها استوفت مهرها من زوجها‏,‏ ولا يعلم ذلك إلّا بقولها - وعليها دين الصّحّة - ثمّ ماتت وهي في عصمة زوجها ولا مال لها غير المهر‏,‏ لا يصح إقرارها‏,‏ ويؤمر الزّوج بردّ المهر إلى الغرماء‏,‏ فيكون بين الغرماء بالحصص‏,‏ لأنّ الزّوج وارث لها‏,‏ وإقرار المريض باستيفاء دين وجب له على وارثه لا يصح‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا أقرّ المريض باستيفاء ما وجب له من الدّين على الأجنبيّ‏,‏ صحّ إقراره إن كان المريض غير متّهم في هذا الإقرار‏,‏ وإذا أقرّ باستيفاء ما وجب له من الدّين على الوارث‏,‏ لم يصحّ إقراره إن كان متّهماً فيه‏,‏ فمدارُ الحكم بالصّحّة أو عدمها في الحالتين على انتفاء التهمة أو ثبوتها‏,‏ قال زروق‏:‏ ولا يجوز إقرار المريض لوارثه بدين أو بقبضه‏,‏ يعني لأنّ حكم الواقع في المرض كلّه حكم الوصيّة‏,‏ ولا وصيّة لوارث‏,‏ ومدار هذه المسائل على انتفاء التهمة وثبوتها‏,‏ فحيث يتّهم بمحاباة يمنع ولا يصح‏,‏ وحيث لا فيجوز ويصح‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يصح إقرار المريض باستيفاء دينه إذا كان غريمه أجنبيّاً لا وارثاً‏.‏

الإقرار بالوقف في مرض الموت

28 - قال الحنفيّة‏:‏ إذا أقرّ المريض أنّه كان قد وقف أرضاً أو داراً في يده في صحّته‏,‏ نفذ إقراره من كلّ ماله إذا عيّن الموقوف عليهم‏,‏ أمّا إذا لم يعيّنهم‏,‏ نفذ من ثلث ماله إن كان له ورثة ولم يجيزوا الإقرار‏,‏ فإن لم يكن له ورثة‏,‏ أو كان له وأجازوه نفذ من الكلّ أيضاً‏.‏ وإذا أقرّ المريض بأنّ الأرض الّتي في يده وقفها رجل مالك لها على معيّن‏,‏ كانت وقفاً من جميع ماله‏,‏ وإذا لم تكن على معيّن‏,‏ كانت وقفاً من ثلث ماله‏.‏

وإذا أقرّ المريض بأرض في يده أنّ رجلاً مالكاً لها جعلها صدقةً موقوفةً عليه وعلى ولده ونسله ثمّ من بعدهم للفقراء‏,‏ فلا تكون وقفاً عليه ولا على ولده‏,‏ وإن لم يكن لهم منازع أصلاً‏,‏ بل تكون للمساكين‏,‏ لأنّه لمّا أقرّ بملكيّتها لغيره‏,‏ وأقرّ بأنّه جعلها صدقةً موقوفةً‏,‏ والأصل في الصّدقة أن تكون للمساكين‏,‏ فقد أقرّ بأنّها وقف عليهم معنىً‏,‏ فلا يقبل منه بعد ذلك دعواه أنّها لنفسه وولده إلّا ببيّنة‏,‏ لأنّه رجوع عن الإقرار الأوّل‏.‏

الإقرار بالطّلاق في مرض الموت

29 - إذا أقرّ المريض أنّه كان قد طلّق زوجته المدخول بها في صحّته‏,‏ فإمّا أن يكون إقراره بطلاق رجعيٍّ أو بائن‏.‏

فإن أقرّ المريض بأنّه طلّقها في صحّته طلاقاً رجعيّاً‏,‏ فقد نصّ المالكيّة والحنابلة على أنّه يقع الطّلاق ساعة تكلّم‏,‏ وتبدأ عدّتها‏,‏ فإن مات أحدهما قبل انقضاء العدّة من يوم الإقرار ورثه الآخر‏,‏ وإن مات بعد انتهاء العدّة فحكمه حكم ما لو أقرّ بأنّه طلّقها في صحّته طلاقاً بائناً‏.‏

أمّا إذا أقرّ المريض بأنّه طلّقها في صحّته ثلاثاً أو بائناً‏,‏ فقد فرّق الحنفيّة في هذه الحالة بين ما إذا صدّقته الزّوجة على ما أقرّ به‏,‏ وبين ما إذا أنكرته عليه‏.‏

فإن صدّقته الزّوجة فلا ترثه‏,‏ لأنّ ما تصادقا عليه صار كالمعاين أو كالثّابت بالبيّنة في حقّهما‏,‏ ولأنّ الحقّ في الميراث لها‏,‏ وقد أقرّت بما يسقط حقّها‏.‏

أمّا إذا أنكرت الزّوجة ذلك‏,‏ فتبتدئ عدّة الطّلاق من وقت الإقرار‏,‏ وترثه إذا استمرّت أهليّتها للإرث من وقت الإقرار إلى وقت موته‏,‏ وكان موته في عدّتها‏.‏

وقال الشّافعي‏:‏ يقع الطّلاق بإقراره ساعة تكلّم‏,‏ وتستقبل عدّة الطّلاق من ذلك اليوم‏,‏ ولا ترثه بحال‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا أقرّ المريض أنّه كان قد طلّق زوجته المدخول بها طلاقاً بائناً‏,‏ فإمّا أن تشهد له على إقراره بيّنة‏,‏ وإمّا ألّا تشهد له على إقراره بيّنة‏:‏ فإن شهدت له بيّنة على إقراره‏,‏ فيعمل به‏,‏ وتكون العدّة من الوقت الّذي أرّخته البيّنة‏,‏ ولا إرث بينهما‏.‏

أمّا إذا لم تشهد له بيّنة على إقراره‏,‏ فيعتبر هذا الإقرار بمنزلة إنشائه الطّلاق في المرض‏,‏ ولا عبرة بإسناده لزمن صحّته‏,‏ فترثه زوجته إن مات من ذلك المرض في العدّة وبعدها‏,‏ ولو تزوّجت غيره أزواجاً‏,‏ ولا يرثها هو‏,‏ وتبتدئ عدّتها من يوم الإقرار‏,‏ لا من اليوم الّذي أسند إليه الطّلاق‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يقبل إقرار المريض بأنّه أبان امرأته في صحّته‏,‏ ويقع الطّلاق ساعة تكلّم‏,‏ وترثه في العدّة وبعدها ما لم تتزوّج‏.‏

ثامناً‏:‏ قضاء المريض ديون بعض الغرماء

30 - إذا قضى المريض ديون بعض غرمائه فإن كانت التّركة تفي بكلّ ديون المريض‏,‏ فقد اتّفق الفقهاء على نفاذ قضائه هذا‏,‏ ولا حقّ لبقيّة الدّائنين في الاعتراض عليه‏,‏ لأنّه لم يؤثّر بهذا العمل على حقّ أحد منهم‏,‏ سواء أكانت الديون مختلفةً في القوّة أو متساويةً فيها‏.‏

أمّا إذا كانت التّركة لا تفي بجميع الديون‏,‏ وقضى المريض بعض دائنيه‏:‏

فقال المالكيّة وبعض الشّافعيّة‏:‏ لا ينفذ قضاؤُه‏,‏ ولبقيّة الغرماء أن يزاحموا من قضاهم المريض بنسبة ديونهم‏,‏ كما لو أوصى بقضاء بعض الديون دون بعض‏,‏ فلا تنفذ وصيّته‏,‏ فكذا إذا قضاها‏.‏

وقال الشّافعيّة على المشهور عندهم والحنابلة‏:‏ ينفذ قضاؤُه لمن قضى من دائنيه‏,‏ وليس لأحد من الدّائنين الباقين حقّ الاعتراض عليه أو مشاركة من قبض من الدّائنين فيما قبض‏,‏ لأنّ المريض قد أدّى واجباً عليه‏,‏ كما لو اشترى شيئاً بثمن مثله فأدّى ثمنه‏,‏ أو باع شيئاً من ماله كذلك وسلّمه‏,‏ فثبت أنّ إيفاء ثمن المبيع قضاء لبعض غرمائه‏,‏ وقد صحّ عقيب البيع‏,‏ فكذلك إذا تراخى عنه‏,‏ إذ لا أثر لتراخيه‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن كانت الديون مختلفةً في القوّة‏,‏ وقضى المريض منها الدّين القويّ‏,‏ وهو دين الصّحّة‏,‏ فلا حقّ لصاحب الدّين الضّعيف في المعارضة‏,‏ لأنّ حقّه مؤخّر‏,‏ أمّا إذا قضى منها الدّين الضّعيف‏,‏ وهو دين المرض‏,‏ فإنّه يثبت لصاحب الدّين القويّ حقّ معارضته‏,‏ لتقدم حقّه‏.‏

31 - أمّا إذا كانت الديون متساويةً في القوّة‏,‏ بأن كانت كلها ديون صحّة‏,‏ أو كانت كلها ديون مرض‏,‏ وقضى المريض بعض الغرماء ديونهم‏,‏ ثبت للباقين حقّ الاعتراض على تفضيله بعضهم على البعض الآخر‏,‏ لتعلق حقّ الجميع بماله على السّواء‏,‏ ويكون لهم أن يشاركوهم فيما قبضوه من المريض‏,‏ كل بنسبة دينه‏,‏ ولا يختص الآخذ بما أخذ‏,‏ حتّى ولو كان المأخوذ مهراً أو أجرة شيء استوفى منفعته‏,‏ لأنّ ما حصل للمريض من منفعة النّكاح وسكنى الدّار لا يحتمل تعلق حقّ الغرماء به‏,‏ ولا يصلح لقضاء حقوقهم‏,‏ فصار وجود هذا العوض وعدمه في حقّهم بمنزلة واحدة‏,‏ فكان إبطالاً لحقّهم‏,‏ وليست له ولاية الإبطال‏.‏ واستثنوا من ذلك مسألتين‏:‏

الأولى‏:‏ إذا أدّى بدل ما استقرضه في مرضه‏.‏

والثّانية‏:‏ إذا دفع ثمن ما اشتراه في مرضه بمثل القيمة‏,‏ إلّا أنّه يشترط ثبوت كل من القرض والشّراء بالبيّنة‏.‏

وهذا النّوع من الديون إذا قضاه المريض في مرضه‏,‏ نفذ قضاؤُه وليس لبقيّة الغرماء أن يشاركوه فيه‏,‏ لأنّ المريض بقضاء دين المقرض والبائع بثمن المثل لم يبطل حقّ الغرماء الباقين‏,‏ لأنّ حقّهم تعلّق بماليّة التّركة لا بأعبائها‏,‏ وهذا لا يعد تفويتاً لحقّهم‏,‏ إذ حصل له مثل ما دفع‏,‏ فكان نقلاً لحقّهم ممّن له ولاية النّقل‏.‏

مرضع

انظر‏:‏ رضاع‏.‏

مَِرْفَِق

التّعريف

1 - المرفق كمسجد ومنبر لغتان‏,‏ ويطلق في اللغة على معنيين‏:‏

الأوّل‏:‏ مرفق الإنسان‏,‏ وهو آخر عظم الذّراع المتّصل بالعضد‏,‏ أو مجتمع طرف السّاعد والعضد‏,‏ ويجمع على مرافق‏.‏

الثّاني‏:‏ مرفق الدّار ونحوها‏,‏ وهو كل ما يرتفق به من مطبخ‏,‏ وكنيف ومصابّ المياه‏,‏ وقيل‏:‏ مرفق الدّار بكسر الميم وفتح الفاء لا غير‏,‏ على التّشبيه باسم الآلة‏.‏

والمرفق بهذا المعنى الثّاني قد سبق الكلام عليه في مصطلح‏:‏ ‏(‏ ارتفاق ‏)‏‏.‏

ويستعمل الفقهاء المرفق بهذين المعنيين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العضد‏:‏

2 - يطلق العضد على معان منها‏:‏ ما بين المرفق إلى الكتف‏,‏ ويجمع على أعضاد‏,‏ ومنها المعين والنّاصر‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ‏}‏‏.‏

والصّلة بين المرفق والعضد المجاورة‏.‏

ب - اليد‏:‏

3 - لليد في كلام العرب إطلاقات كثيرة‏,‏ والمراد بها هنا عضوٌ من أعضاء الجسد‏,‏ وهي بهذا المعنى تطلق على ثلاثة معان‏:‏ الكف فقط‏,‏ والكف والذّراع‏,‏ والكف والذّراع والعضد‏.‏ فالمرفق والعضد والذّراع جميعاً من أجزاء اليد على الإطلاق الثّالث‏,‏ وليس كذلك على الإطلاق الأوّل والثّاني‏.‏

الحكم الإجمالي

يختلف الحكم المترتّب على المرفق باختلاف مواطنه على النّحو التّالي‏:‏

غسل المرفق في الوضوء

4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب غسل المرفقين مع اليدين في الوضوء‏,‏ واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ‏}‏‏,‏ ووجه الاستدلال‏:‏ أنّ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ الْمَرَافِقِ ‏}‏ مع المرافق‏,‏ لأنّ ‏"‏ إلى ‏"‏ تستعمل بمعنى ‏"‏ مع ‏"‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ‏}‏ أي مع قوّتكم‏.‏

وقال بعض أصحاب مالكٍ وزفر من الحنفيّة والطّبري‏:‏ لا يجب غسل المرفقين‏,‏ لأنّ اللّه تعالى أمر بالغسل إليهما فلا يدخل المذكور بعده‏,‏ نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ‏}‏‏.‏

وعند المالكيّة قول ثالث‏:‏ وهو دخول المرفقين في الغسل استحباباً لكونه أحوط‏,‏ لزوال مشقّة التّحديد‏.‏

وإن خلقت اليدان بلا مرفقين كالعصا‏,‏ فصرّح جمهور الفقهاء بأنّه يغسل إلى قدرهما من غالب النّاس إلحاقاً للنّادر بالغالب‏.‏

وقال بعض المالكيّة‏:‏ يجب غسلهما للإبط احتياطاً‏,‏ وفيه‏,‏ وفي غسل الأقطع من مفصل مرفق‏,‏ أو دونه أو فوقه تفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏ وضوء ‏)‏‏.‏

وأمّا مسح المرفقين في التّيمم فقد اختلف الفقهاء فيه‏,‏ وينظر في مصطلح ‏(‏ تيمم ف / 11 ‏)‏‏.‏

كيفيّة وضع المرفق في السجود

5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من سنن السجود للرّجل غير العاري مجافاة مرفقيه عن ركبتيه في السجود‏,‏ بحيث يكونان بعيدين عن جنبيه‏,‏ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يفعل ذلك في سجوده‏,‏ وقد روي أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم « كان إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمرّ بين يديه لمرّت »‏,‏ وفي رواية أخرى‏:‏ « كان النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سجد جافى بين يديه حتّى لو أنّ بهمةً أرادت أن تمرّ تحت يديه مرّت »‏,‏ وذلك يدل على شدّة مبالغته في رفع مرفقيه وعضديه‏.‏

وقيل‏:‏ إذا كان في الصّفّ لا يجافي‏,‏ كي لا يؤذي جاره‏.‏

وزاد الرّحيبانيّ وغيره من الحنابلة‏:‏ بأنّه يجب تركه في حالة الإيذاء‏,‏ ويحرم عليه فعله لحصول الإيذاء المنهيّ عنه‏.‏

ونصّ أيضاً بأنّ للمصلّي أن يعتمد بمرفقيه على فخذيه إن طال سجوده ليستريح‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ وقد شكوا إليه مشقّة السجود عليهم‏:‏ « استعينوا بالرّكب »‏.‏

وأمّا المرأة فتضم المرفقين إلى الجنبين في جميع الصّلاة‏,‏ لأنّه أستر لها‏.‏

وكذلك العاري‏,‏ فالأفضل له الضّم وعدم التّفريق‏,‏ وإن كان خالياً‏,‏ كما صرّح به بعض الشّافعيّة‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّ من كمال السجود رفع المرفقين عن الأرض‏,‏ واستدلوا بقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « إذا سجدت فضع كفّيك‏,‏ وارفع مرفقيك »‏.‏

القصاص في المرفق

6 - من شروط وجوب القصاص فيما دون النّفس الاستيفاء من غير حيف‏,‏ ويتحقّق ذلك في اليد بأن يكون القطع من مفصل فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع من غير خلاف بل فيه الدّية‏,‏ وعلى هذا‏:‏ لو قطع يد شخص من المرفق فله القصاص منه‏,‏ لأنّه مفصل‏,‏ وليس له القطع من الكوع‏,‏ لأنّه أمكنه استيفاء حقّه بكماله‏,‏ والاقتصاص يكون من محلّ الجناية عليه‏,‏ فلم يجز له العدول إلى غيره‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ جناية على ما دون النّفس ف / 11 ‏)‏‏.‏

دية المرفق

7 - اتّفق الفقهاء على وجوب الدّية في قطع اليدين‏,‏ ووجوب نصفها في قطع إحداهما‏,‏ واختلفوا فيما إذا قطع ما فوق الكوع أي من بعض السّاعد أو المرفق على أقوال ينظر في مصطلح ‏(‏ ديات ف / 43 ‏)‏‏.‏

النّظر إلى مرفقيّ المرأة

8 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ مرفقيّ المرأة عورة بالنّسبة للأجنبيّ‏,‏ وورد عن أبي يوسف القول بجواز إظهار ذراعيها لأنّهما يبدوان منها عادةً‏.‏

أما بالنّسبة للمحارم لنسب أو سبب مصاهرة أو رضاع فيرى جمهور الفقهاء جواز النّظر إلى اليدين إلى المرفقين‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ عورة ف / 3‏,‏ 6 ‏)‏‏.‏

مَرْهُون

انظر‏:‏ رهن‏.‏

مُروءَة

التّعريف

1 - المروءة في اللغة‏:‏ آداب نفسانيّة تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات‏.‏

يقال‏:‏ مَرُؤَ الرّجل فهو مريء‏:‏ أي ذو مروءة‏.‏

وفي الاصطلاح عرّفها الفقهاء بتعاريف متقاربة ضابطها‏:‏ الاستقامة‏,‏ قال القليوبيّ‏:‏ إنّها صفة تمنع صاحبها عن ارتكاب الخصال الرّذيلة‏.‏

وقال الشّربينيّ الخطيب‏:‏ وأحسن ما قيل في تفسير المروءة أنّها تخلق المرء بخلق أمثاله من أبناء عصره ممّن يراعي مناهج الشّرع وآدابه في زمانه ومكانه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

العدالة‏:‏

2 - العدالة في اللغة‏:‏ صفة توجب مراعاتها الاحتراز عمّا يخل بالمروءة عادةً ظاهراً‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على صغيرة من نوع واحد أو أنواع‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمروءة

المروءة في الشّهادة

3 - المروءة من لوازم قبول الشّهادة‏,‏ فيشترط في الشّاهد فوق اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصّغائر‏:‏ التّرفع عن ارتكاب الأمور الدّنيئة المزرية بالمرء وإن لم تكن حراماً‏,‏ وهي كل ما يذم فاعله عرفاً من أمثاله في زمانه ومكانه‏,‏ لأنّ الأمور العرفيّة قلّما تنضبط‏,‏ بل تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والبلدان‏.‏

مسقطات المروءة

تسقط المروءة بالأمور الدّنيئة وهي نوعان‏:‏

4 - أحدهما في الأفعال‏:‏ كالأكل في السوق وكشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه‏,‏ وكشف رأسه في بلد يُعدّ فعله خفّةً وسوء أدب‏,‏ والبول على الطّريق ومدّ رجله عند النّاس‏,‏ والتّمسخر بما يضحك النّاس به‏,‏ ومخاطبة امرأته بالخطاب الفاحش‏,‏ ومشي الواجد حافياً‏,‏ ففاعل هذه الأشياء ونحوها تسقط مروءته فلا تقبل شهادته‏,‏ وإن اجتنب الكبائر ولم يصرّ على الصّغائر لأنّها سخف ودناءة‏,‏ فمن رضي لنفسه هذه الأفعال واستحسنها فليست له مروءة‏,‏ فلا تحصل الثّقة بقوله‏,‏ ولأنّ المروءة تمنع عن الكذب وتزجر عنه‏,‏ ولهذا يمتنع منه ذو المروءة وإن لم يكن ذا دين‏,‏ وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب أعتبرت في العدالة كالدّين‏,‏ ويشترط في انخرام العدالة بالأفعال المذكورة أن يفعلها في محضر من النّاس وأن يتّخذها عادةً‏,‏ فإن فعلها مختفياً أو مرّةً واحدةً لم تسقط بها المروءة‏,‏ لأنّ صغائر المعاصي لا تؤثّر في العدالة إذا لم تتكرّر منه‏,‏ فهذا أولى‏.‏

وتختلف المروءة باختلاف الأشخاص والأزمان والأماكن‏,‏ فقد يستقبح فعل شيء ما من شخص دون آخر‏,‏ وفي قطر دون آخر‏,‏ وفي حال دون آخر‏,‏ فحمل الطّعام للبيت والماء شحّاً يخرم المروءة‏,‏ بخلاف حملها اقتداءً بالسّلف‏,‏ ولبس فقيه قباءً أو قلنسوةً في بلد لا يعتاد للفقيه لبسها يخرم المروءة‏,‏ والتّقشف في المأكل والمشرب والملبس للواجد شحّاً يخرمها‏,‏ بخلاف ما إذا فعل ذلك تواضعاً للّه وكسراً للنّفس‏.‏

5 - النّوع الثّاني‏:‏ الصّناعات الدّنيئة‏:‏ لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الاحتراف بصنعة يحرم الاحتراف بها شرعاً تسقط المروءة والعدالة‏.‏

واختلفوا في سقوط المروءة بالاحتراف بصنعة دنيئة عرفاً مباحة شرعاً‏.‏

فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الاحتراف بصنعة دنيئة عرفاً تنخرم المروءة بها وإن كانت مباحةً شرعاً‏,‏ كحجامة وكنس لزبل ونحوه ودبغ وكقيّم حمام وحارس وقصّاب وإسكاف ممّن لا تليق به‏,‏ وليست مهنة آبائه ولم يتوقّف عليها قوته وقوت عياله‏,‏ لإشعار ذلك بقلّة مروءته‏,‏ أما إذا كان ممّن تليق به أو كانت حرفة آبائه أو توقّف عليها قوته وقوت عياله فلا تسقط المروءة بها في الأصحّ‏,‏ لأنّه لا يعيّر بها في هذه الحالة‏,‏ ولأنّها حرفة مباحة يحتاج إليها النّاس‏.‏

وفي قول للشّافعيّة والحنفيّة تسقط مروءته بها‏,‏ لأنّ في اختياره لها مع اتّساع طرق الكسب إشعاراً لسقوط الهمّة وقلّة المروءة‏.‏

وقال الحنفيّة في الصّحيح‏:‏ تقبل شهادة أصحاب الصّنائع الدّنيئة إذا كان غالب أحوالهم الصّلاح‏.‏

قال السّمنانيّ‏:‏ من استقام منهم في الطّريقة وعرف بصدق اللّهجة في بيعه وشرائه ليست الصّناعة بضائرة له‏,‏ ولولا ذلك لما عرفنا بشهادتهم قيم الدّوابّ وعيوب الحيوان‏,‏ ولا بدّ في كلّ صنعة من مستور وصالح مستقيم‏,‏ وعلى هذه الأحوال وجد النّاس بعضهم بعضاً‏.‏ وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّه لا تسقط المروءة بحرفة مباحة‏,‏ فتقبل شهادة من صناعته دنيئة عرفاً‏,‏ كالحجّام والكنّاس والحائك والحارس‏.‏

أما ما اتّخذه أرباب الدنيا من العادات الّتي لم يقبّحها السّلف ولا اجتنبها أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مثل تقذرهم من حمل الحوائج والأقوات للعيال‏,‏ ولبس الصوف‏,‏ وركوب الحمار وحمل الماء على الظّهر والرّزمة إلى السوق فلا يعتبر شيء من ذلك من المروءة الشّرعيّة‏,‏ فقد كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحمل الواحد منهم الماء لأهله‏,‏ ويحمل الرّزمة إلى السوق‏,‏ وقد « ركب المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم الحمار »، « واحتذى المخصوف » مع كونه قد أوتي مكارم الأخلاق فلا ازدراء في ذلك‏,‏ ولا إسقاط مروءة‏.‏

مُرور

التّعريف

1 - المرور لغةً‏:‏ الاجتياز‏,‏ يقال‏:‏ مررت بزيد وعليه مرّاً ومروراً وممرّاً‏:‏ اجتزت‏,‏ ومرّ الدّهر مرّاً ومروراً‏:‏ ذهب‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الوقوف‏:‏

2 - الوقوف لغةً‏:‏ السكون‏,‏ يقال‏:‏ وقفت الدّابّة تقف وقفاً ووقوفاً‏:‏ سكنت‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة أنّ المرور ضدّ الوقوف‏:‏

الأحكام المتعلّقة بالمرور

يتعلّق بالمرور أحكام منها‏:‏

المرور بين يدي المصلّي

3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المرور وراء سترة المصلّي لا يضر‏,‏ وأنّ المرور بين المصلّي وسترته منهي عنه‏,‏ فيأثم المار بين يديه‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لو يعلم المار بين يدي المصلّي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه »‏.‏

وللفقهاء في إثم المصلّي أو المارّ أو إثمهما معاً تفصيل ينظر في‏:‏ ‏(‏ سترة المصلّي ف / 12 ‏)‏‏.‏

موضع المرور المنهيّ عنه

4 - يرى الحنفيّة في الأصحّ أنّ الموضع الّذي يكره المرور فيه هو موضع صلاة المصلّي من قدمه إلى موضع سجوده‏,‏ هذا حكم الصّحراء‏,‏ فإن كان في المسجد إن كان بينهما حائل كإنسان أو أسطوانة لا يكره‏,‏ وإن لم يكن بينهما حائل والمسجد صغير كره في أيّ مكان كان‏,‏ وقالوا‏:‏ المسجد الكبير كالصّحراء‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن كان للمصلّي سترة حرم المرور بينه وبين سترته‏,‏ ولا يحرم المرور من ورائها‏,‏ وإن كان يصلّي لغير سترة حرم المرور في قدر ركوعه وسجوده‏,‏ وهو الأوفق بيسر الدّين‏,‏ وقال بعضهم‏:‏ يحرم المرور بين يدي المصلّي في قدر رمية حجر أو سهم أو رمح‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يحرم المرور بين المصلّي وسترته إذا كان بينهما قدر ثلاثة أذرع فأقلّ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يحرم المرور بين المصلّي وسترته ولو كانت السّترة بعيدةً من المصلّي‏,‏ وإن لم تكن سترة فيحرم المرور في قدر ثلاثة أذرع يد من موضع قدم المصلّي‏.‏

المرور أمام المصلّي في المسجد الحرام

5 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يمنع المرور بين يدي المصلّي خلف المقام من المسجد الحرام ولا في حاشية المطاف وذلك لما روي « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يصلّي ممّا يلي باب بني سهم والنّاس يمرون بين يديه » وليس بينهما سترة‏,‏ وهو محمول على الطّائفين لأنّ الطّواف صلاة فصار كمن بين يديه صفوف من المصلّين‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ يرخّص بالمرور في المسجد الحرام ولو كان للمارّ مندوحة‏,‏ ويكره للطّائف إن كانت له مندوحة إن صلّى لسترة في المسجد الحرام‏,‏ وإن صلّى لغير سترة فيجوز المرور مطلقاً‏.‏

وتوسّع الحنابلة في ذلك فقالوا‏:‏ لا يرد المار بين يدي المصلّي بمكّة المشرّفة‏,‏ قال أحمد‏:‏ لأنّ مكّة ليست كغيرها‏,‏ لكثرة النّاس وازدحامها بهم‏,‏ فمنعهم تضييق عليهم‏,‏ لما روي « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى بمكّة والنّاس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة »‏,‏ وألحق الموفّق بمكّة سائر الحرم‏.‏

قال الرّحيبانيّ‏:‏ ويتّجه إنّما يتمشّى كلام الموفّق في زمن الحجّ لكثرة النّاس واضطرارهم‏,‏ وأمّا في غير أيّام الحجّ فلا حاجة للمرور بين يدي المصلّي للاستغناء عنه‏,‏ وكلام أحمد يمكن حمله على الصّلاة في المطاف أو قريباً منه‏.‏

ضمان ما ينشأ عن مقاتلة المارّ

6 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إن أدّى الدّفع المشروع من المصلّي للمارّ بين يديه إلى موته - مع التّدرج المنصوص عليه في الدّفع - لا يضمنه المصلّي ودمه هدر‏,‏ وذلك لحديث‏:‏ « إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من النّاس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه‏,‏ فإن أبى فليقاتله فإنّما هو شيطان » أي فيه شيطان أو هو شيطان الإنس‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ مقاتلة المارّ غير مأذون بها‏,‏ فإن أدّت المقاتلة إلى قتل المارّ كان قتله جنايةً‏,‏ فيلزم المصلّي موجبها من دية أو قود‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يدفع المصلّي المارّ دفعاً خفيفاً لا يشغله فإن كثر أبطل‏,‏ ولو دفعه دفعاً مأذوناً فيه فسقط منه دينار أو انخرق ثوبه ضمن‏,‏ ولو مات المار بدفع المصلّي كانت دية المارّ على عاقلة المصلّي‏,‏ وذلك لأنّه لمّا كان الدّفع مأذوناً فيه في الجملة كان كالخطأ‏.‏

أثر المرور بين يدي المصلّي في قطع الصّلاة ونقصها

7 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ المرور بين المصلّي وسترته لا يقطع الصّلاة ولا يبطلها‏,‏ ولو كان بالصّفّة الّتي توجب الإثم على المارّ‏,‏ وذلك لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لا يقطع الصّلاة شيء‏,‏ وادرءوا ما استطعتم »‏,‏ وقالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي من اللّيل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة »‏,‏ ولحديث « أنّ زينب بنت أمّ سلمة حين مرّت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يقطع الصّلاة »‏.‏

وقال الحنابلة مثل ذلك‏,‏ إلّا أنّهم استثنوا الكلب الأسود البهيم فقالوا‏:‏ إنّه يقطع الصّلاة وأضاف الحنابلة‏:‏ إنّ المرور بين يدي المصلّي ينقص الصّلاة ولا يقطعها‏,‏ قال القاضي‏:‏ ينبغي أن يحمل ذلك على من أمكنه الرّد فلم يفعل‏.‏

المرور بين يدي المأمومين

8 - اختلف الفقهاء في حكم المرور بين يدي المأمومين‏,‏ واختلافهم هذا فرع عن اختلافهم في سترة الإمام وفي الإمام‏,‏ هل يكون أي منهما سترةً للمأمومين أو لا يكون‏؟‏‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ سترة المصلّي ف / 11 ‏)‏‏.‏

المرور أمام المصلّي في مكان مغصوب

9 - نصّ الشّافعيّة‏:‏ على أنّه إذا صلّى مسلم بسترة في مكان مغصوب لم يحرم المرور بينها وبينه ولم يكره‏,‏ سواء وجد المار سبيلاً غيره أم لا‏.‏

وللحنابلة وجهان فيمن صلّى إلى سترة مغصوبة ومرّ من ورائها كلب أسود‏.‏

أحدهما‏:‏ تبطل صلاته لأنّه ممنوع من نصبها والصّلاة إليها فوجودها كعدمها‏.‏

والثّاني‏:‏ لا تبطل لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « يقي من ذلك مثل مؤخرة الرّحل » وهذا قد وجد‏.‏

المرور في ملك الغير

10 - نصّ الحنفيّة على أنّ من أحيا أرضاً ميّتةً ثمّ أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة من أربعة نفر على التّعاقب تعيّن مرور الأوّل في الأرض الرّابعة‏,‏ وأمّا لو كان الإحياء جميعه لواحد فله أن يمرّ إلى أرضه من أيّ جانب‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه يجوز المرور في ملك الغير بما جرّت به العادة ولم يضرّ وإن منعه‏.‏

المرور في الطّريق العامّ والخاصّ

11 - الطّريق العام - وهي النّافذة - من المرافق العامّة‏,‏ وللجميع الانتفاع بها بما لا يضر الآخرين باتّفاق الفقهاء ومنفعتها الأصليّة المرور فيها لأنّها وضعت لذلك‏,‏ فيباح لهم الانتفاع بما وضع له وهو المرور بلا خلاف‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ طريق ف / 9 ‏)‏‏.‏

أما الطّريق غير النّافذ فملك لأهله‏,‏ ولا يجوز لغير أهله التّصرف فيه إلّا برضاهم وإن لم يضرّ‏,‏ لأنّه ملكهم فأشبه الدور‏.‏

وأهله من لهم حقّ المرور فيه إلى ملكهم من دار أو بئر أو فرن أو حانوت لا من لاصق جداره الدّرب من غير نفوذ باب فيه‏,‏ لأنّ هؤُلاء هم المستحقّون الارتفاق فيه‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ طريق ف / 21 ‏)‏‏.‏

المرور في المسجد للمحدث

12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز دخول الحائض والنفساء والجنب إلى المسجد ولو مروراً من باب لباب‏,‏ إلّا أن لا يجد بدّاً فيتيمّم ويدخل‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يمنع الجنب من العبور في المسجد‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ دخول ف / 6 - 8 ‏)‏‏.‏

المرور على العاشر

13 - ينصب الإمام على المعابر في طرق الأسفار عشّارين للجباية ممّن يمر عليهم بأموال التّجارة من المسلمين وأهل الذّمّة وأهل الحرب إذا أتوا بأموالهم إلى بلاد الإسلام‏,‏ فيأخذ من أهل الإسلام ما يجب عليهم من زكاة‏,‏ ويأخذ من أهل الذّمّة نصف العشر‏,‏ ويأخذ من أهل الحرب العشر‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ زكاة ف / 155‏,‏ وعشر ف / 13 وما بعدها ‏)‏‏.‏

أثر المرور بالوطن في قصر الصّلاة

14 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو المذهب عند الشّافعيّة إلى أنّ مرور المسافر بوطنه يصيّره مقيماً بدخوله ويقطع حكم السّفر‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّ مرور المسافر بوطنه لا يقطع حكم السّفر‏,‏ فلو أنّ رجلاً مقيماً ببغداد أراد الخروج إلى الكوفة‏,‏ فعرضت له حاجة بالنّهروان‏,‏ ثمّ رجع فمرّ ببغداد ذاهباً إلى الكوفة‏,‏ صلّى ركعتين إذا كان يمر ببغداد مجتازاً لا يريد الإقامة بها‏.‏

ونصّ المالكيّة على أنّه من غلبته الرّيح بالمرور على وطنه لا يقطع حكم السّفر‏,‏ إلّا إذا انضمّ لذلك دخول أو نيّة دخول‏.‏

ولو مرّ المسافر في طريقه على قرية أو بلدة له بها أهل وعشيرة فذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة وقول عند أحمد‏:‏ إلى أنّه يصير مقيماً من غير نيّة الإقامة ويتم صلاته لما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال‏:‏ « من تأهّل في بلد فليصلّ صلاة المقيم »‏.‏

وقال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما‏:‏ إذا قدمت على أهل لك أو مال فصلّ صلاة المقيم‏,‏ ولأنّه مقيم ببلد فيه أهله فأشبه البلد الّذي سافر منه وقال الزهري‏:‏ إذا مرّ بمزرعة له أتمّ‏.‏ والقول الأظهر عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ مرور المسافر على قرية أو بلد له بها أهل وعشيرة لا ينهي سفره‏.‏

المرور بالماء وعدم الوضوء منه

15 - قال الحنابلة‏:‏ لو مرّ المسلمون بماء قبل الوقت أو كان معه الماء فأراقه قبل الوقت‏,‏ ثمّ دخل الوقت وعدم الماء فلا إثم عليه لعدم تفريطه‏,‏ لأنّه ليس مخاطباً بالطّهارة قبل دخول الوقت‏,‏ وصلّى بالتّيمم ولا إعادة عليه‏,‏ لأنّه أتى بما هو مكلّف به‏,‏ وإن مرّ بالماء في الوقت وأمكنه الوضوء ولم يتوضّأ‏,‏ ويعلم أنّه لا يجد غيره‏,‏ حرم لتفريطه بترك ما هو واجب عليه بلا ضرورة‏,‏ فإن لم يمكنه الوضوء أو توضّأ ثمّ انتقض وضوءه بعد مفارقة الماء وبعده عنه‏,‏ أو كان لا يعلم أنّه لا يجد غيره فلا إثم عليه لعدم تفريطه‏.‏

ولو كان معه الماء فأراقه في الوقت حرم‏,‏ لأنّه وسيلة إلى فوات الطّهارة بالماء الواجبة‏,‏ وكذا لو باعه في الوقت أو وهبه فيه لغير محتاج لشرب حرم عليه ذلك‏.‏

ونصّ الحنفيّة على أنّ المتيمّم إذا مرّ بماء كاف لوضوئه فإن كان مستيقظاً بطل تيممه‏,‏ وإن كان ناعساً أو نائماً متمكّناً لم يبطل تيممه عند الصّاحبين وهو الرّواية المصحّحة عن الإمام وعليها الفتوى لعجزه عن استعمال الماء‏,‏ وفي رواية أخرى عن الإمام أنّه يبطل تيممه‏.‏

حقّ المرور

16 - نصّ الحنفيّة على صحّة بيع حقّ المرور تبعاً للأرض بلا خلاف عندهم‏,‏ ومقصوداً وحده في رواية‏,‏ قال ابن عابدين نقلاً عن المضمرات‏:‏ هو الصّحيح وعليه الفتوى‏,‏ وفي رواية أخرى‏:‏ لا يصح وصحّحها أبو اللّيث‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يصح بيع مسكن بلا ممر بأن لم يكن له ممر‏,‏ أو كان ونفاه في بيعه لتعذر الانتفاع به‏,‏ سواء تمكّن المشتري من اتّخاذ ممر له من شارع سواء ملكه أم لا‏,‏ كما قاله الأكثرون‏,‏ وشرط البغويّ عدم تمكنه من ذلك‏.‏

وإذا بيع عقار وخصّص المرور إليه بجانب اشترط تعيينه‏,‏ فلو احتفّ بملكه من كلّ الجوانب‏,‏ وشرط للمشتري حقّ المرور إليه من جانب لم يعيّنه بطل لاختلاف الغرض باختلاف الجوانب‏,‏ فإن لم يخصّص بأن شرطه من كلّ جانب‏,‏ أو قال‏:‏ بحقوقها‏,‏ أو أطلق صحّ ومرّ إليه من كلّ جانب‏,‏ وهذا ما لم يلاصق الشّارع أو ملكه وإلّا مرّ منه فقط‏.‏

المَرْوَة

انظر‏:‏ سعي‏.‏

مَرِيء

انظر‏:‏ بلعوم‏.‏

مريض

انظر‏:‏ مرض‏.‏

مُزَابَنة

انظر‏:‏ بيع المزابنة‏.‏

مُزاح

التّعريف

1 - المزاح بالضّمّ في اللغة‏:‏ اسم من مزح يمزح‏,‏ والمزح‏:‏ الدعابة‏,‏ والمزاح - بالكسر - مصدر مازحه‏,‏ وهما متمازحان‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ المُزاح بالضّمّ المباسطة إلى الغير على وجه التّلطف والاستعطاف دون أذيّة‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - لا بأس بالمزاح إذا راعى المازح فيه الحقّ وتحرّى الصّدق فيما يقوله في مزاحه‏,‏ وتحاشى عن فحش القول‏,‏ وقد روى ابن عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « إنّي لأمزح ولا أقول إلّا حقّاً »‏.‏

قال البركوي والخادمي‏:‏ شرط جواز المزاح قولاً أو فعلاً أن لا يكون فيه كذب ولا روع مسلم وإلّا فيحرم‏.‏

وروى الخلّال عن أحمد وجماعة من السّلف الممازحة في بعض الأوقات‏,‏ وذكر ابن عبد البرّ عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما أنّه قال‏:‏ المزاح بما يحسن مباح « وقد مزح النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يقل إلّا حقّاً »‏.‏

والآثار في مشروعيّة المزاح كثيرة‏.‏

وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة‏,‏ ومن التّوصل إلى أعراض النّاس واستجلاب الضّغائن وإفساد الإخاء‏,‏ وقالوا‏:‏ لكلّ شيء بدء‏,‏ وبدء العداوة المزاح‏,‏ وكان يقال‏:‏ لو كان المزاح فحلاً ما لقّح إلّا الشّرّ‏,‏ وقال سعيد بن العاص‏:‏ لا تمازح الشّريف فيحقد‏,‏ ولا الدّنيء فيجترئ عليك‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ اعلم أنّ المنهيّ عنه الإفراط في المزاح أو المداومة عليه‏,‏ أما المداومة فلأنّه اشتغال باللّعب والهزل فيه‏,‏ واللّعب مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة‏,‏ وأمّا الإفراط فيه فإنّه يورث كثرة الضّحك‏,‏ وكثرة الضّحك تميت القلب‏,‏ وتورث الضّغينة في بعض الأحوال‏,‏ وتسقط المهابة والوقار‏,‏ فما يخلو عن هذه الأمور فلا يذم‏.‏

مزاح القاضي

3 - قال الحنفيّة كما جاء في روضة القضاة ينبغي للقاضي إذا أراد الجلوس للقضاء أن يخرج وهو على أعدل الأحوال‏:‏ لا جائع ولا عطشان ولا كضيض من الطّعام ولا كسلان ولا يقضي وهو غضبان ولا يمزح مع خصم‏,‏ ولا يساره ولا يضحك في وجهه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يجب على القاضي أن يسوّي بين الخصمين ولا يؤثّر أحدهما بشيء من الإكرام ولا يمازحه‏.‏

والمذهب عند الحنابلة أنّه يسن للقاضي أن لا يهزل ولا يمجن أي يمزح لأنّ ذلك يخل بهيبته‏.‏

تصرفات المازح

4 - تنفذ تصرفات المازح ‏"‏ الهازل ‏"‏ القوليّة فيقع طلاقه وسائر تصرفاته ظاهراً وباطناً‏,‏ لحديث‏:‏ « ثلاث جدهنّ جد وهزلهنّ جد الطّلاق والنّكاح والرّجعة »‏,‏ وفي رواية‏:‏ العتق‏.‏ وخصّ الثّلاثة بالذّكر في الحديث الشّريف‏,‏ لتأكد أمر الأبضاع ولتشوف الشّارع بالعتق‏.‏ وإلّا فكل التّصرفات كذلك‏.‏

قال الشّافعيّة‏:‏ كل التّصرفات تنعقد بالهزل في الأصحّ‏.‏

ادّعاء المزاح بعد الإقرار

5 - نصّ الشّافعي على أنّه لو أقرّ شخص لرجل بحقّ‏,‏ ثمّ قال مزحت فإن صدّقه بأنّه مزاح لم يحلّ له أخذه‏,‏ وإن كذّبه وكان صادقاً بالإقرار الأوّل عنده وسعه أخذ ما أقرّ له به‏,‏ وإن شكّ أحببت له الوقوف فيه‏.‏

ادّعاء المزاح بالبيع

6 - قال المالكيّة‏:‏ إن قال البائع أبيعك سلعتي بكذا أو أعطيكها بكذا‏,‏ فأجابه المشتري بما يدل على الرّضا‏,‏ فقال البائع لم أرد البيع إنّما أردت اختبار ثمنها‏,‏ أو قال كنت مازحاً أو نحو ذلك فإنّه يحلف أنّه ما أراد بقوله أبيعكها إيجاب البيع‏,‏ وإنّما أراد به ما ذكره من اختبار الثّمن والمزح‏,‏ فإن حلف لم يلزمه البيع‏,‏ وإن نكل عن اليمين يلزمه البيع‏,‏ أما إذا أتى بصيغة الماضي بأن قال بعتكها بكذا‏,‏ أو قد أعطيتكها بكذا‏,‏ أو قال قد أخذتها بكذا - كل ذلك بصيغة الماضي - فرضي المشتري‏,‏ ثمّ أبى البائع وقال ما أردت البيع بل كان مزحاً لم ينفعه ولزمه البيع‏.‏

مُزَاحَمة

التّعريف

1 - المزاحمة - بوزن مفاعلة - وهي في اللغة‏:‏ المدافعة على مكان أو غيره‏,‏ فيقال‏:‏ زحمته زحماً‏:‏ دفعته وضايقته على المجلس‏,‏ وزحم القوم بعضهم بعضاً‏:‏ تدافعوا‏,‏ ومنه قيل على الاستعارة‏:‏ تزاحم الغرماء على مال المدين المفلس‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمزاحمة

تختلف أحكام المزاحمة باختلاف مواطنه‏,‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

الزّحام عن الركوع

2 - نصّ المالكيّة على أنّه إن زوحم مؤتم عن ركوع مع إمامه حتّى رفع الإمام رأسه عن الركوع معتدلاً مطمئناً قبل إتيان المؤتمّ بأدنى الركوع‏,‏ فإن كان في الرّكعة الأولى لا يتبعه في الركوع والرّفع منه‏,‏ بل متى رفع الإمام‏,‏ من الركوع معتدلاً ترك الركوع الّذي فاته مع الإمام‏,‏ وينتقل معه فيما هو فيه‏,‏ فيخر ساجداً إن كان الإمام متلبّساً به‏,‏ ويقضي ركعةً بعد سلام الإمام‏,‏ فإن خالف وركع ولحقه‏,‏ بطلت صلاته إن اعتدّ بالرّكعة‏,‏ لأنّه قضاء في صلب الإمام‏.‏

وإن زوحم عن الركوع في الرّكعة الثّانية حتّى رفع الإمام رأسه قبل إتيان المأموم بأدنى الركوع اتّبعه في الركوع والرّفع منه وأدركه فيما هو فيه من سجود أو جلوس بين السّجدتين وجوباً‏,‏ لثبوت مأموميّته بإدراكه مع الإمام الرّكعة الأولى ما لم يرفع رأسه من سجودها‏:‏ أي لم يتمّ الرّكعة‏,‏ فإن ظنّ أو اعتقد أنّه يدرك الإمام ويسجد السّجدة الأولى معه‏,‏ أو يدركه قي جلوسه بين السّجدتين ويسجد الثّانية معه‏,‏ أو يسجد السّجدة الأولى مع سجود الإمام الثّانية ويسجد هو الثّانية بعد رفع الإمام منها‏,‏ فإن اعتقد ذلك أو ظنّه فتبعه فرفع الإمام رأسه من السّجدة الثّانية قبل أن يلحقه فيها ألغى ما فعله وانتقل مع الإمام فيما هو فيه وأتى بركعة بعد سلام الإمام‏.‏

وإن ظنّ أنّه إن ركع لا يدرك الإمام في السجود في الرّكعة الثّانية للإمام فإنّه يترك الركوع وينتقل مع الإمام فيما هو فيه ويقضيها بعد سلام الإمام‏.‏

الزّحام عن السجود

3 - قال جمهور الفقهاء‏:‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ المأموم إذا منعه الزّحام عن السجود على أرض ونحوها فأمكنه السجود على شيء من إنسان أو متاع ونحوهما فعل ذلك وجوباً‏,‏ لأثر عمر رضي اللّه عنه قال‏:‏ إذا اشتدّ الزّحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه‏,‏ ولا يُحتاج إلى إذنه‏,‏ لأنّ الأمر فيه يسير ويُتسامَح فيه‏,‏ ولأنّه متمكّن في سجود يجزئه فوجب عليه أن يأتي به‏,‏ فإن لم يفعل ذلك يعتبر متخلّفاً عن متابعة الإمام بغير عذر‏.‏

قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ وإن لم يمكنه أن يسجد ولو على ظهر إنسان أو قدمه انتظر زوال العذر‏,‏ ولا يومئ لقدرته على السجود‏,‏ ثمّ إن تمكّن من السجود قبل ركوع إمامه في الثّانية سجد وجوباً تداركاً عند زوال العذر‏,‏ فإن رفع عن السجود والإمام بعد قائم قرأ ما أمكنه من الفاتحة‏,‏ فإن لم يدرك زمناً يسع لقراءة الفاتحة فهو كمسبوق‏,‏ وركع مع الإمام إن ركع قبل إتمامه الفاتحة‏,‏ ولا يضر التّخلف الماضي‏,‏ لأنّه تخلف بعذر‏,‏ وإن رفع عن السجود والإمام راكع يركع معه وهو مسبوق‏,‏ لأنّه لم يدرك في موضع القراءة‏.‏

فإن كان إمامه قد فرغ من الركوع في الرّكعة الثّانية ولم يسلّم وافقه فيما هو فيه كالمسبوق ثمّ صلّى ركعةً بعد سلامه لفواتها كالمسبوق‏,‏ وإن سلّم الإمام قبل أن يتمكّن من السجود فاتت عليه الرّكعة‏,‏ وعليه إن كانت الصّلاة صلاة جمعة أتمّها ظهراً‏,‏ لأنّه لم تتمّ له ركعة فيتمها ظهراً‏,‏ وإن لم يمكنه الركوع حتّى ركع الإمام في الرّكعة التّالية يركع‏,‏ لظاهر خبر‏:‏ « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا ركع فاركعوا »‏,‏ ولأنّ متابعة الإمام آكد‏,‏ ولهذا يتبعه المسبوق ويترك القراءة والقيام‏,‏ ويحسب ركوعه الأوّل‏,‏ لأنّه أتى بها وقت الاعتداد بالركوع‏,‏ فركعته ملفّقة من ركوع الرّكعة الأولى ومن سجود الثّانية الّتي أتى بها‏,‏ ويأتي بعد سلام الإمام بركعة‏,‏ وتصح جمعته إن كانت الصّلاة جمعةً‏,‏ لحديث‏:‏ « من أدرك من الجمعة ركعةً فليصلّ إليها أخرى »‏,‏ وهذا قد أدرك ركعةً‏,‏ ويأتي بالثّانية بعد سلام الإمام‏,‏ فإن سجد المزحوم على ترتيب صلاة نفسه عالماً بأنّ واجبه المتابعة بطلت صلاته‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن زوحم عن سجدة أو سجدتين من الأولى أو غيرها فلم يسجدها حتّى قام الإمام لما تليها‏:‏ فإن لم يطمع في سجودها أي لم يتحقّقه أو يظنّه قبل عقد إمامه الرّكعة الّتي تليها برفع رأسه من ركوعها - بأن تحقّق أو ظنّ أنّه إن سجدها رفع إمامه من ركوع الّتي تليها قبل لحوقه أو شكّ في هذا - تمادى وجوباً على ترك السّجدة أو السّجدتين وتبع إمامه فيما هو فيه‏,‏ فإن سجدها ولحق الإمام فإن أدركه في الركوع صحّت وإلّا بطلت‏,‏ وقضى ركعةً بعد سلام إمامه وإلّا سجدها إن تحقّق أنّه إن سجدها لحق الإمام قبل عقد الّتي تليها‏,‏ فإن تخلّف اعتقاده وعقد الإمام الرّكعة دونه بطلت الرّكعة الأولى لعدم إتيانه بسجودها على الوجه المطلوب والثّانية لعدم إدراكه ركوعها مع الإمام‏,‏ وإن تمادى على ترك السّجدة لعدم طمعه فيها قبل عقد إمامه ولحق الإمام فيما هو فيه وقضى ركعةً بعد سلامه فلا سجود عليه لزيادة ركعة النّقص‏,‏ إذ الإمام يحملها عنه إن تيقّن المأموم ترك السّجدة فإن شكّ فيه سجد بعد السّلام لاحتمال زيادة الرّكعة الّتي أتى بها بعد سلام إمامه‏.‏ وجاء في المدوّنة‏:‏ من زحمه النّاس يوم الجمعة بعد ما ركع مع الإمام الرّكعة الأولى فلم يقدر أن يسجد حتّى ركع الإمام الرّكعة الثّانية قال مالك‏:‏ لا أرى أن يسجد وليركع مع الإمام هذه الرّكعة الثّانية ويلغي الأولى ويضيف إليها أخرى‏,‏ قال مالك‏:‏ من أدرك الرّكعة يوم الجمعة فزحمه النّاس بعدما ركع مع الإمام الأولى فلم يقدر على السجود حتّى فرغ الإمام من صلاته قال‏:‏ يعيد الظهر أربعاً‏,‏ وإن هو زحمه النّاس يوم الجمعة بعدما ركع مع الإمام الأولى‏,‏ فلم يقدر على أن يسجد حتّى ركع الإمام الرّكعة الثّانية قال‏:‏ لا أرى أن يسجد وليركع مع الإمام الرّكعة الثّانية‏,‏ ويلغي الأولى‏,‏ وقال مالك من زحمه النّاس يوم الجمعة بعدما ركع الإمام وقد ركع معه ركعةً فلم يقدر على أن يسجد معه حتّى سجد الإمام وقام قال فيتبعه ما لم يخف أن يركع الإمام الرّكعة الثّانية‏,‏ قال ابن القاسم فإن خاف أن يركع الإمام الرّكعة الثّانية ألغى الّتي فاتته ودخل مع الإمام فيما يستقبل‏,‏ وإن هو صلّى مع الإمام ركعةً بسجدتيها يوم الجمعة ثمّ زحمه النّاس في الرّكعة الثّانية فلم يقدر على أن يركعها مع الإمام حتّى فرغ الإمام من صلاته‏,‏ قال مالك يبني على صلاته ويضيف إليها ركعةً أخرى‏,‏ قال ابن القاسم‏,‏ وقال مالك إن زحمه النّاس فلم يستطع السجود إلّا على ظهر أخيه أعاد الصّلاة‏,‏ قيل له‏:‏ أفي الوقت وبعد الوقت‏؟‏ قال‏:‏ يعيد ولو بعد الوقت وكذلك قال مالك‏.‏

الموت في الزّحام

4 - اختلف الفقهاء في اعتبار الموت في زحام لوثاً فقال المالكيّة‏:‏ لا يعتبر الموت في الزّحمة لوثاً يوجب القسامة‏,‏ بل هو هدر‏,‏ وبه قال الحنابلة‏:‏ ولكنّهم يهدرون دمه‏,‏ وديته في بيت المال‏,‏ وهذا قول إسحاق‏,‏ ونقل ذلك عن عمر وعليٍّ رضي اللّه عنهما‏,‏ لما روي‏:‏ أنّه قتل رجل في زحام النّاس بعرفة فجاء أهله إلى عمر رضي اللّه عنه فقال بيّنتكم على من قتله‏,‏ فقال علي رضي اللّه عنه يا أمير المؤمنين‏,‏ لا يطل دم مسلم إن علمت قاتله‏,‏ وإلّا فأعطه ديته من بيت المال‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا تزاحمت جماعة محصورون في مضيقٍ كمسجد في يوم عيد أو جمعة أو باب الكعبة فانكشفوا عن قتيل فهو لوث يحقّ به لورثة القتيل القسامة لقوّة الظّنّ‏:‏ أنّهم قتلوه‏,‏ ولا يشترط هنا كونهم أعداء له‏,‏ بشرط أن يكونوا محصورين بحيث يتصوّر اجتماعهم على قتله‏.‏

المزاحمة على استلام الحجر الأسود

5 - قال الفقهاء‏:‏ إذا تعذّر استلام الحجر لزحام النّاس نظر‏,‏ فإن كان إن صبر يسيراً خفّ الزّحام وأمكنه الاستلام صبر‏,‏ وإن علم أنّ الزّحام لا يخف ترك الاستلام ولم يزاحم النّاس بل أشار إليه بيده رافعاً يده ثمّ يقبّلها‏,‏ لحديث سعيد بن المسيّب رحمه اللّه عن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « يا عمر إنّك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضّعيف‏,‏ إن وجدت خلوةً فاستلمه وإلّا فاستقبله فهلّل وكبّر »‏.‏

وحكي عن طائفة‏:‏ أنّ الزّحام إليه أفضل‏,‏ روي عن سالم بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال‏:‏ كنّا نزاحم ابن عمر وكان عبد اللّه رضي اللّه عنه لو زاحم الجمل زحمه‏.‏

هذا في حقّ الرّجال‏,‏ أما النّساء فلا يُختار لهنّ الاستلام والتّقبيل‏,‏ وإذا حاذين الحجر أشرن إليه‏.‏

مُزَارَعَة

التّعريف

1 - المزارعة في اللغة من زرع الحبّ زرعاً وزراعةً‏:‏ بذره‏,‏ والأرضَ‏:‏ حرثها للزّراعة‏,‏ وزرع اللّه الحرث‏:‏ أنبته وأنماه‏,‏ وزارعه مزارعةً‏:‏ عامله بالمزارعة‏.‏

والمزارعة‏:‏ المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها‏.‏

وفي الاصطلاح عرّفها الفقهاء بعدّة تعريفات‏.‏

فعرّفها الحنفيّة بأنّها‏:‏ عقد على الزّرع ببعض الخارج‏.‏

وعرّفها المالكيّة‏:‏ بأنّها الشّركة في الزّرع‏.‏

وعند الشّافعيّة هي‏:‏ عمل على أرض ببعض ما يخرج منها‏,‏ والبذر من المالك‏.‏

وهي عند الحنابلة‏:‏ دفع أرض وحب لمن يزرعه ويقوم عليه‏,‏ أو مزروع ليعمل عليه بجزء مشاع معلوم من المتحصّل‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المساقاة‏:‏

2 - المساقاة لغةً‏:‏ أن يستعمل رجل رجلاً في نخيل أو كروم ليقوم بإصلاحها على أن يكون له معلوم ممّا تغله‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ دفع شجر مغروس معلوم له ثمر مأكول لمن يعمل عليه بجزء مشاع معلوم من ثمره‏.‏

والصّلة بين المزارعة والمساقاة‏:‏ أنّ للعامل في كل منهما حصّة شائعة من الإنتاج‏,‏ إلّا أنّ المزارعة تقع على الزّرع كالحبوب‏,‏ والمساقاة تقع على الشّجر كالنّخيل‏.‏

ب - الإجارة‏:‏

3 - الإجارة لغةً‏:‏ اسم للأجرة‏,‏ وهي كراء الأجير‏,‏ ونقل عن المبرّد أنّه يقال‏:‏ أجّر وآجر إجاراً وإجارةً‏,‏ وعليه فتكون مصدراً وهذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحيّ‏.‏ والإجارة في الاصطلاح عرّفها الفقهاء بأنّها‏:‏ عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ إجارة ف / 1 - 2 ‏)‏‏.‏

والصّلة بين الإجارة والمزارعة‏:‏ أنّ المزارعة فرع من الإجارة‏,‏ إلّا أنّ الأجرة في الإجارة معيّنة القدر في العقد‏,‏ أما في المزارعة فهي جزء من النّاتج‏.‏

حكم المزارعة

4 - اختلف الفقهاء في حكم المزارعة إلى اتّجاهين‏:‏

فذهب المالكيّة والحنابلة‏,‏ وأبو يوسف ومحمّد‏,‏ وعليه الفتوى عند الحنفيّة إلى جواز عقد المزارعة‏,‏ ومشروعيتها‏,‏ وممّن رأى ذلك سعيد بن المسيّب‏,‏ وطاووس‏,‏ وعبد الرّحمن بن الأسود‏,‏ وموسى بن طلحة‏,‏ والزهري‏,‏ وعبد الرّحمن بن أبي ليلى وابنه‏,‏ وابن عبّاس رضي اللّه عنهما في قول‏.‏

وقد روي ذلك عن معاذ رضي اللّه عنه‏,‏ والحسن‏,‏ وعبد الرّحمن بن يزيد‏,‏ وسفيان الثّوريّ‏,‏ والأوزاعيّ وابن المنذر وإسحاق‏,‏ وآخرين‏.‏

واستدلوا على ذلك بالسنّة والإجماع والمعقول‏.‏

فمن السنّة ما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع »‏.‏

أما الإجماع فقد أجمع الصّحابة قولاً وعملاً على مشروعيّة المزارعة‏,‏ ولم يخالف في ذلك أحد منهم‏.‏

فالمزارعة شريعة متوارثة‏,‏ لتعامل السّلف والخلف ذلك من غير نكير‏.‏

وأمّا المعقول‏,‏ فقالوا‏:‏ إنّ المزارعة عقد شركة بمال من أحد الشّريكين وهو الأرض‏,‏ وعمل من الآخر وهو الزّراعة‏,‏ فيجوز بالقياس على المضاربة‏,‏ والجامع بينهما دفع الحاجة في كل منهما‏,‏ فإنّ صاحب المال قد لا يهتدي إلى العمل‏,‏ والمهتدي إليه قد لا يجد المال‏,‏ فمسّت الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بينهما‏.‏

وذهب أبو حنيفة وزفر إلى عدم جواز المزارعة مطلقاً‏,‏ واستدلوا على ذلك بالسنّة المطهّرة والمعقول‏.‏

أما السنّة فمنها ما ورد أنّ رافع بن خديج رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنّا نخابر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ فذكر أنّ بعض عمومته أتاه فقال‏:‏ « نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أمر كان لنا نافعاً‏,‏ وطواعية اللّه ورسوله أنفع لنا وأنفع‏,‏ قال‏:‏ قلنا‏:‏ وما ذلك‏؟‏ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه‏,‏ ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمّىً »‏.‏

وأمّا المعقول فمن وجهين‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم « نهى عن قفيز الطّحّان » والاستئجار ببعض الخارج - المزارعة - في معناه‏,‏ والمنهي عنه غير مشروع فيكون الاستئجار لبعض الخارج غير مشروع كذلك‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ الاستئجار ببعض الخارج من النّصف والثلث والربع ونحوه استئجار ببدل مجهول أو معدوم‏,‏ وأنّه لا يجوز‏.‏

وذهب مالك إلى أنّه لا يجوز إعطاء الأرض مزارعةً إلّا أن تكون أرضاً وشجراً‏,‏ فيكون مقدار البياض من الأرض ثلث مقدار الجميع‏,‏ ويكون السّواد مقدار الثلثين من الجميع‏,‏ فيجوز حينئذ أن تعطى بالثلث والربع‏,‏ والنّصف على ما يعطى به ذلك السّواد‏.‏

يقول ابن رشد‏,‏ وأمّا مالك فقال‏:‏ إذا كانت الأرض تبعاً للثّمر‏,‏ وكان الثّمر أكثر ذلك‏,‏ فلا بأس بدخولها في المساقاة‏,‏ اشترط جزءاً خارجاً منها أو لم يشترطه‏,‏ وحدّ ذلك الجزء بأن يكون الثلث فما دونه‏,‏ أعني أن يكون مقدار كراء الأرض الثلث من الثّمر فما دونه‏,‏ ولم يجز أن يشترط رب الأرض أن يزرع البياض لنفسه‏,‏ لأنّها زيادة ازدادها عليه‏.‏

وأجازها الشّافعيّة في الأرض الّتي تكون بين النّخيل أو العنب إذا كان بياض الأرض أقلّ‏,‏ فإن كان أكثر فالأصح جوازها أيضاً‏,‏ وقيل‏:‏ لا تجوز‏,‏ ولكنّهم منعوها مطلقاً في الأرض البيضاء‏,‏ كما قال أبو حنيفة وزفر ومالك‏.‏

حكمة مشروعيّة المزارعة

5 - شرعت المزارعة لحاجة النّاس إليها‏,‏ لأنّ ملّاك الأرض قد لا يستطيعون زرعها والعمل عليها‏,‏ كما أنّهم قد يريدون تأجيرها بجزء من المحصول وليس بأجرة نقديّة‏,‏ ومن الجانب الآخر فالعمّال يحتاجون إلى الزّرع ولا مال لهم يتملّكون به الأرض وهم قادرون على الزّراعة‏,‏ فاقتضت حكمة الشّارع جواز المزارعة‏,‏ كما في المضاربة والمساقاة‏,‏ بل إنّ الحاجة هاهنا آكد منها في المضاربة‏,‏ لأنّ حاجة الإنسان إلى الزّرع آكد منها إلى غيره لكونه مقتاتاً‏,‏ ولكون الأرض لا ينتفع بها إلّا بالعمل عليها بخلاف المال‏.‏

أركان المزارعة

6 - أركان عقد المزارعة هي أركان العقد بصفّة عامّة‏.‏

وهي - عند القائلين بمشروعيتها من جمهور الفقهاء - العاقدان‏,‏ ومحل العقد‏,‏ والصّيغة‏,‏ أي الإيجاب والقبول الدّالّان على التّراضي‏.‏ وركنها عند الحنفيّة الصّيغة فقط‏.‏

وقال الحصكفيّ من الحنفيّة‏:‏ إنّ أركان المزارعة أربعة‏:‏ أرض‏,‏ وبذر‏,‏ وعمل‏,‏ وبقر‏.‏

حقيقة المزارعة

7 - اختلف الفقهاء في حقيقة عقد المزارعة‏,‏ وهل هو إجارة‏,‏ أو شركة أو يجمع بين الاثنين‏؟‏‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّ المزارعة تنعقد إجارةً‏,‏ ثمّ تتم شركةً‏,‏ ففيها معنى الإجارة والشّركة عندهم‏.‏

أما أنّ فيها معنى الإجارة فلأنّ الإجارة تمليك المنفعة بعوض والمزارعة كذلك‏,‏ لأنّ البذر إن كان من قبل ربّ الأرض فالعامل يملك منفعة نفسه من ربّ الأرض بعوض هو نماء بذره‏,‏ وإن كان من قبل العامل فصاحب الأرض يملك منفعة أرضه من العامل بعوض هو نماء بذره‏,‏ فكانت المزارعة استئجاراً‏,‏ إمّا للعامل‏,‏ وإمّا للأرض‏,‏ والأجرة فيها بعض الخارج منها‏.‏

وأمّا أن فيها معنى الشّركة‏,‏ فلأنّ الخارج من الأرض يكون مشتركاً بين صاحبها وبين المزارع حسب النّسبة المتّفق عليها بينهما‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّها شركة‏,‏ ولذلك قالوا في تعريفها‏:‏ هي الشّركة في الزّرع‏.‏

وجاء في مواهب الجليل‏:‏ قال في التّوضيح‏:‏ المزارعة دائرة بين الشّركة والإجارة‏,‏ قال ابن عبد السّلام‏:‏ والأقرب عندي أنّها شركة حقيقة‏,‏ وجاء فيه أيضاً‏:‏ لا تصح الشّركة في المزارعة إلّا بشرطين‏.‏

وجاء في حاشية الدسوقيّ أنّها شركة عمل وإجارة‏,‏ غير أنّ بعض المالكيّة غلّب الشّركة على الإجارة‏,‏ والبعض غلّب الإجارة على الشّركة‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ المزارعة من جنس المشاركات وليست من جنس المؤجّرات‏,‏ وهي نظير المضاربة‏.‏

صفة عقد المزارعة

8 - يراد بصفة عقد المزارعة أي من حيث اللزوم وعدمه‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في صفة عقد المزارعة‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّ المزارعة لازمة في جانب من لا بذر له‏,‏ فلا يملك فسخها بدون رضا الآخر إلّا بعذر يمنعه من إتمامها‏,‏ ولكنّها ليست لازمةً في جانب من عليه البذر قبل إلقاء بذره في الأرض‏,‏ فيملك فسخها بعذر وبدون عذر‏,‏ لأنّه لا يمكنه المضي في العمل إلّا بإتلاف ماله - وهو البذر - بإلقائه في الأرض فيهلك فيها‏,‏ ولا يدري إن كان ينبت أم لا‏؟‏ وليس كذلك من لا بذر له‏.‏

ولكنّه لا يملك الفسخ بعد إلقاء البذر في الأرض‏,‏ إلّا بعذر طارئٍ يحول دون إتمام العقد‏.‏ ويرى المالكيّة في الرّاجح عندهم أنّها غير لازمة قبل إلقاء البذر في الأرض‏,‏ فيجوز لكلّ من المتعاقدين فسخها‏,‏ فالمزارعة لا تلزم بمجرّد العقد ولا بالعمل في الأرض قبل إلقاء البذر فيها - أي زرعها - ولو كان العمل كثيراً كحرث الأرض وتسويتها وريّها بالماء‏.‏ وجزم ابن الماجشون وسحنون‏:‏ بلزوم المزارعة بمجرّد العقد وهو قول ابن كنانة وابن القاسم في كتاب سحنون‏.‏

ومرجع الخلاف بينهم‏,‏ أنّ المزارعة شركة عمل وإجارة‏,‏ فمن غلّب الشّركة قال بعدم لزومها بمجرّد العقد‏,‏ لأنّ شركة العمل لا تلزم إلّا بالعمل‏,‏ ومن غلّب الإجارة قال‏:‏ بلزومها بمجرّد العقد‏.‏

وللمالكيّة قول ثالث وهو أنّها تلزم بالعقد إذا انضمّ إليه عمل‏,‏ وتلزم بالبذر وإن لم يتقدّمه عمل‏.‏

وظاهر كلام أحمد بن حنبل - وهو المذهب - أنّ المزارعة من العقود الجائزة‏,‏ لأنّ اليهود سألوا الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقرّهم بخيبر على أن يعملوها ويكون للرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم شطر ما يخرج منها‏,‏ فقال لهم الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « نقركم على ذلك ما شئنا »‏,‏ ولو كان العقد لازماً لما جاز بغير تقدير مدّة ولا جعل الخيرة لنفسه في مدّة إقرارهم‏,‏ ولأنّه لم ينقل عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قدّر لهم ذلك بمدّة‏,‏ ولو قدّر لما ترك نقله‏,‏ لأنّ هذا ممّا يحتاج إليه فلا يجوز الإخلال بنقله‏,‏ وعمر رضي اللّه عنه أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر‏,‏ ولو كانت لهم مدّة مقدّرة لما جاز إخراجهم منها‏,‏ ولأنّها عقد على جزء من نماء المال فكان جائزاً كالمضاربة‏.‏

وقال بعض الحنابلة‏:‏ إنّ المزارعة لازمة بمجرّد العقد‏,‏ لأنّ القاعدة العامّة في العقود هي اللزوم‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ‏}‏‏.‏

شروط صحّة المزارعة

شروط صحّة المزارعة منها ما هو خاصّ بالمتعاقدين‏,‏ أو بالبذر‏,‏ أو بالخارج من الأرض‏,‏ أو بالأرض‏,‏ أو بما عقد عليه المزارعة‏,‏ أو بالمدّة‏.‏

أوّلاً‏:‏ الشروط الخاصّة بالمتعاقدين

9 - يشترط لصحّة عقد المزارعة في حقّ العاقدين ما يشترط في سائر عقود المعاوضات‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ عقد ف / 28 وما بعدها ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ ما يخص البذر

10 - البذر‏:‏ هو كل حب يزرع في الأرض‏,‏ وقد نصّ الحنفيّة والحنابلة على أنّه يشترط فيه أن يكون معلوماً‏,‏ بأن يبيّن جنسه‏,‏ ونوعه‏,‏ ووصفه‏.‏

وعلّل الحنفيّة ذلك بأنّ إعلام جنس الأجرة لا بدّ منه‏,‏ ولا يصير ذلك معلوماً إلّا ببيان جنس البذر‏.‏

وأنّ حال المزروع يختلف باختلاف الزّرع بالزّيادة والنقصان‏,‏ فربّ زرع يزيد في الأرض‏,‏ وربّ آخر ينقصها‏,‏ وقد يكثر النقصان وقد يقل فوجب البيان والتّحديد‏,‏ حتّى يكون لزوم الضّرر مضافاً إلى التزامه‏.‏

وإذا عيّن صاحب الأرض نوعاً خاصّاً من الزّرع كالقطن أو القمح أو الأرز مثلاً وجب على المزارع أن يلتزم بزراعته‏,‏ فإذا خالف وقام بزراعة نوع آخر خيّر المالك بين فسخ العقد وإمضائه‏,‏ لعدم التزام المزارع بالشّرط الصّحيح‏.‏

أما لو أطلق صاحب الأرض‏,‏ ولم يعيّن نوعاً خاصّاً من الزّرع‏,‏ بأن قال للمزارع‏:‏ ازرع فيها ما شئت فإنّه يجوز له أن يزرع فيها ما يشاء‏,‏ لأنّه لمّا فوّض الأمر إليه فقد رضي بالضّرر الّذي قد ينجم عن الزّراعة‏,‏ ورضي أيضاً بأن تكون حصّته النّسبة المتّفق عليها من أيّ محصول تنتجه الأرض‏.‏

إلّا أنّ لربّ الأرض أن يشترط ألّا يزرع فيها ما يضر بأرضه أو شجره - إن كان له فيها شجر - فإذا شرط ذلك وجب الوفاء بالشّرط ولا تجوز مخالفته‏,‏ لأنّه شرط موافق لمقتضى العقد‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ شرط ف / 19‏,‏ 20 ‏)‏

تحديد مقدار البذر

11 - اختلف الفقهاء في اشتراط تحديد مقدار البذر الّذي يزرع‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى عدم اشتراط ذلك‏,‏ لأنّ هذا تحدّده حاجة الأرض إليه‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه يشترط تحديد مقدار البذر لأنّها معاقدة على عمل‏,‏ فلم تجز على غير معلوم الجنس والقدر كالأجرة‏.‏

الطّرف الّذي يكون عليه البذر

12 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز أن يكون البذر من المزارع‏,‏ ويجوز أن يكون من صاحب الأرض‏,‏ ولكن لا يجوز أن يكون منهما معاً‏,‏ فوجب بيان من عليه البذر‏,‏ لأنّ عدم البيان يؤدّي إلى المنازعة وهي مفسدة للعقد‏.‏

وقال أبو بكر البلخي‏:‏ يحكّم العرف في ذلك إن اتّحد وإلّا فسد‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز أن يكون البذر من أيٍّ منهما‏,‏ ويجوز أن يكون منهما معاً‏,‏ بشرط أن لا يكون مقابل الأرض لئلّا يؤدّي إلى كراء الأرض بممنوع‏,‏ وهو مقابلة الأرض بطعام كالعسل‏,‏ أو بما تنبته ولو لم يكن طعاماً كالقطن والكتّان‏.‏

ثمّ إن كان منهما معاً فقد اختلف المالكيّة في اشتراط خلط ما أخرجاه من بذر‏.‏

فعند مالكٍ وابن القاسم وهو أحد قولي سحنون أنّه لا يشترط الخلط حقيقةً ولا حكماً‏,‏ وهو الرّاجح الّذي به الفتوى‏,‏ فلو بذر كل منهما بذره في جهة أو فدّان غير الآخر‏,‏ جازت المزارعة عندهم‏.‏

ويشترط المالكيّة كذلك أن يتماثل البذران جنساً وصنفاً‏,‏ فلو أخرج أحدهما قمحاً‏,‏ والآخر شعيراً - مثلاً - فإنّ المزارعة لا تصح‏,‏ وكان لكلّ منهما ما أنبته بذره ويتراجعان في الأكرية‏,‏ وقيل‏:‏ يصح ذلك أيضاً عندهم‏.‏

وفي القول الآخر لسحنون - وهو قول خليل وابن الحاجب - أنّه يشرط الخلط حقيقةً أو حكماً‏.‏

فالخلط الحقيقي يكون بضمّ بذر كل منهما إلى بذر صاحبه ثمّ يبذر الجميع في الأرض‏.‏

أمّا الحكمي فيكون بأن يحمل كل منهما بذره إلى الأرض ويبذره بها بدون تميز لأحدهما عن الآخر‏,‏ فإن تميّز بذر كل منهما بجهة معيّنة من الأرض انتفت الشّركة بينهما‏,‏ وكان لكلّ منهما ما أنبته حبه‏,‏ ويتراجعان في الأكرية ويتقاصّان‏.‏

وذهب الحنابلة - في إحدى الرّوايتين عن أحمد - إلى أنّه لا يشترط كون البذر من ربّ الأرض‏,‏ واختار هذه الرّواية بعضهم‏,‏ قال المرداوي‏:‏ وهي أقوى دليلاً‏.‏

وظاهر المذهب اشتراطه‏,‏ قال المرداوي‏:‏ وهو الصّحيح من المذهب‏,‏ والمشهور عن أحمد وعليه جماهير الأصحاب‏.‏

ثالثاً‏:‏ الشروط الخاصّة بالخارج من الأرض - قسمة المحصول

13 - يقصد بالخارج من الأرض‏:‏ المحصول الّذي سيقسم على أطراف عقد المزارعة‏.‏ ويشترط في هذا الخارج من الأرض شروط هي‏:‏

أ - أن يبيّن في عقد المزارعة نصيب من لا بذر له من الخارج من الأرض‏,‏ فلو سكت عنه فسدت المزارعة‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏,‏ لأنّ المزارعة استئجار ببعض الخارج والسكوت عن ذكر الأجرة مفسد للإجارة‏,‏ فكذلك السكوت عن ذكر الخارج يفسد المزارعة‏,‏ وقالوا - أي الحنفيّة -‏:‏ يجب أن يبيّن نصيب من لا بذر من قبله‏,‏ لأنّه أجرة عمله أو أرضه فلا بدّ أن يكون معلوماً‏,‏ وإذا لم يسمّ لصاحب البذر‏,‏ وسمّى ما للآخر جاز‏,‏ لأنّ من لا بذر من قبله إنّما يستحقّ بالشّرط‏,‏ أمّا صاحب البذر فيستحقّ بملكه البذر فلا ينعدم استحقاقه بترك البيان في نصيبه‏,‏ وإن سمّى نصيب صاحب البذر ولم يسمّ ما للآخر‏,‏ ففي القياس عند الحنفيّة‏,‏ لا يجوز‏,‏ لأنّهم ذكروا ما لا حاجة إلى ذكره وتركوا ما يحتاج إليه لصحّة العقد‏,‏ ومن لا بذر من قبله يستحقّ بالشّرط فبدون الشّرط لا يستحقّ شيئاً‏,‏ ولكن في الاستحسان عندهم‏:‏ الخارج يكون مشتركاً بينهما والتّنصيص على نصيب أحدهما يكون بياناً بأنّ الباقي للآخر‏.‏

ب - أن يكون الخارج مشتركاً بين صاحب الأرض والمزارع‏,‏ لأنّه هو المقصود بالمزارعة‏,‏ فلو شرطا أن يكون الخارج من الأرض لأحدهما فقط‏,‏ فسدت المزارعة‏,‏ لأنّ معنى الشّركة لازم لهذا العقد وكل شرطٍ يكون قاطعاً لها يكون مفسداً للعقد‏,‏ فالمزارعة تنعقد إجارةً في الابتداء‏,‏ وتقع شركةً في الانتهاء‏,‏ كما ذكرنا‏.‏

ج - أن تكون حصّة كلّ واحد منهما بعض الخارج من الأرض ذاتها‏,‏ فلو شرطا أن تكون الحصّة من محصول أرض أخرى بطلت المزارعة‏,‏ لأنّها استئجار ببعض الخارج من الأرض وليست كالإجارة المطلقة‏.‏

د - أن يكون ذلك البعض من الخارج معلوم القدر‏,‏ سواء بالتّساوي أو بالتّفاوت حسب الاتّفاق بين المتعاقدين‏,‏ كالنّصف‏,‏ والثلث‏,‏ والربع ونحو ذلك‏,‏ لأنّ ترك التّقدير يؤدّي إلى الجهالة المفضية إلى المنازعة‏,‏ ولهذا يشترط بيان مقدار الأجرة في الإجارة فكذلك في المزارعة‏.‏

غير أنّ المالكيّة و الحنابلة في المذهب اشترطوا التّساوي في الرّبح إذا كان البذر منهما متساوياً‏,‏ فإن كان متفاضلاً فعلى قدر بذر كل‏.‏

هـ - أن تكون حصّة كل منهما من الخارج جزءاً شائعاً من الجملة كالنّصف أو الثلث أو الربع‏,‏ ونحو ذلك‏,‏ وعلى ذلك لو شرط لأحدهما كميّةً معيّنةً من المحصول كعشرة أرادبّ من القمح أو خمسة قناطير من القطن‏,‏ فإنّ العقد لا يصح مطلقاً لأنّ المزارعة فيها معنى الإجارة والشّركة - كما سبق - وإذا ثبت أنّ فيها معنى الإجارة والشّركة‏,‏ فإنّ اشتراط قدر معلوم من الخارج لأحدهما ينفي لزوم معنى الشّركة‏,‏ لاحتمال أنّ الأرض لا تخرج زيادةً على القدر المعلوم فلا يبقى للطّرف الآخر شيء‏.‏

وكذلك إذا اشترط أحدهما أن يكون قدر البذر لنفسه والباقي يقسم بينهما فسدت المزارعة لاحتمال أنّ الأرض لا تنتج إلّا قدر البذر فيكون الخارج كله له‏,‏ ويحرم الآخر من المحصول‏,‏ فينتفي معنى الشّركة‏,‏ ولأنّ صاحب البذر في الحقيقة شرط قدر البذر له لا عين بذره‏,‏ لأنّ عينه تهلك في التراب‏,‏ وهذا الشّرط لا يصح‏,‏ لأنّه يكون بمثابة اشتراط كميّة معيّنة من المحصول له‏,‏ وهذا يفسد المزارعة‏.‏

وينبني على هذا الشّرط أيضاً أنّه لا يجوز الاتّفاق على أن يكون لصاحب الأرض زرع ناحية معيّنة من الأرض‏,‏ وللمزارع زرع النّاحية الأخرى‏,‏ ومثل هذا الاتّفاق مفسد للمزارعة نفسها‏,‏ وذلك كأن يشترط أحدهما لنفسه ما على السّواقي والجداول إمّا منفرداً أو بالإضافة إلى نصيبه‏.‏

واستدلوا على ذلك بما روي عن حنظلة بن قيس الأنصاريّ قال‏:‏ « سألت رافع بن خديج رضي اللّه عنه عن كراء الأرض بالذّهب والورق فقال‏:‏ لا بأس به‏,‏ إنّما كان النّاس يؤاجرون على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزّرع فيهلك هذا ويسلم هذا‏,‏ ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للنّاس كراء إلّا هذا‏,‏ فلذلك زجر عنه‏,‏ فأمّا شيء معلوم مضمون فلا بأس به »‏.‏

وبأنّ اشتراط زرع ناحية معيّنة يمنع لزوم الشّركة في العقد‏,‏ لأنّه شيء معلوم وقد يتلف زرع ما عيّن لأحدهما دون الآخر فينفرد أحدهما بالغلّة دون صاحبه‏.‏

رابعاً‏:‏ ما يخص الأرض - محل المزارعة

14 - المزروع فيه هو‏:‏ الأرض‏,‏ وقد اشترط الفقهاء فيها شروطاً هي‏:‏

أ - أن تكون الأرض محلّ المزارعة معلومةً أي معيّنةً تعييناً نافياً للجهالة‏,‏ فإذا كانت مجهولةً فسدت المزارعة‏.‏

ب - أن تكون الأرض صالحةً للزّراعة في مدّة المزارعة فلو كانت غير صالحة لها في هذه المدّة‏,‏ بأن كانت سبخةً‏,‏ أو نزّةً‏,‏ فإنّ المزارعة عليها لا تجوز‏,‏ لأنّ المزارعة عقد استئجار‏,‏ والأجرة فيها بعض الخارج‏,‏ والأرض الّتي لا تصلح للزّراعة لا تجوز إجارتها‏,‏ فلا تصح المزارعة عليها كذلك‏.‏

أمّا إذا كانت صالحةً للزّراعة في المدّة‏,‏ ولكن لا يمكن زراعتها وقت التّعاقد لعارض مؤقّت كانقطاع الماء أو في زمن الفيضان‏,‏ أو كثرة الثلوج ونحو ذلك من العوارض الّتي هي على شرف الزّوال في مدّة المزارعة فإنّ العقد يكون صحيحاً‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ج - التّخلية بين الأرض والعامل ليتمكّن من العمل فيها بلا مانع‏.‏

وعلى ذلك لو اشترط أن يكون العمل على صاحب الأرض أو عليهما معاً فسدت المزارعة لانعدام التّخلية بين الأرض والمزارع‏.‏

والتّخلية أن يقول صاحب الأرض للعامل‏:‏ سلّمت إليك الأرض‏,‏ ومن التّخلية أن تكون الأرض فارغةً عند العقد‏,‏ فإن كان فيها زرع قد نبت‏,‏ فيشترط أن يكون قابلاً لعمل الزّراعة بأن يؤثّر فيه العمل بالزّيادة بمجرى العادة لأنّ ما لا يؤثّر فيه العمل بالزّيادة عادةً لا يتحقّق فيه معنى المزارعة‏.‏

جواز المزارعة بالأرض المستأجرة نقداً

15 - ذهب الحنفيّة‏,‏ و المالكيّة‏,‏ و الحنابلة إلى أنّه لا يشترط أن تكون الأرض مملوكةً لصاحبها‏,‏ وإنّما يكفي أن يكون مالكاً لمنفعتها فقط‏,‏ وعلى ذلك‏:‏ لو استأجر إنسان أرضاً من الغير لمدّة معيّنة بمبلغ معيّن من المال‏,‏ فإنّه يجوز لهذا المستأجر أن يدفع هذه الأرض مزارعةً إلى شخص آخر‏,‏ ووجه ذلك أنّ المعيار لصحّة المزارعة أن تكون منفعة الأرض مملوكةً لمن يزارع عليها‏,‏ أمّا ملكيّة رقبتها فليست بشرط لذلك‏.‏

خامساً‏:‏ ما يخص المعقود عليه في المزارعة

16 - اشترط الحنفيّة أن يكون الّذي عقد عليه في المزارعة مقصوداً من حيث إنّها إجارة أحد أمرين‏:‏

الأمر الأوّل‏:‏ منفعة العامل‏,‏ وذلك إذا كان البذر من صاحب الأرض‏,‏ لأنّه يصير مستأجراً للعامل ليزرع له أرضه بنسبة معيّنة من المحصول‏.‏

الأمر الثّاني‏:‏ منفعة الأرض‏,‏ وذلك إذا كان البذر من العامل‏,‏ لأنّه يصير مستأجراً للأرض بجزء من نمائها يدفعه لصاحبها‏.‏

وإذا اجتمعا في الاستئجار فسدت المزارعة‏.‏

أمّا منفعة الماشية ونحوها من الآلات اللّازمة للزّراعة فإنّها إمّا أن تكون تابعةً للعقد‏,‏ أو مقصودةً بذاتها‏,‏ فإن جعلت تابعةً له جازت المزارعة‏,‏ وإن جعلت مقصودةً فسدت‏.‏

ووجه عدم جواز جعل منفعة الماشية مقصودةً في العقد أنّ المزارعة تنعقد إجارةً ثمّ تتم شركةً‏,‏ ولا يتصوّر انعقاد الشّركة بين منفعة الماشية وبين منفعة العامل‏,‏ وأنّ جواز المزارعة ثبت بالنّصّ على خلاف القياس - عند الحنفيّة كما سبق - لأنّ الأجرة معدومة وهي مع انعدامها مجهولة فيقتصر جوازها على المحلّ الّذي ورد فيه النّص‏,‏ وذلك فيما إذا كانت الآلة تابعةً‏,‏ فإذا جعلت مقصودةً يرد إلى القياس‏.‏

سادساً‏:‏ ما يخص المدّة

17 - اختلف الفقهاء في اشتراط مدّة معيّنة لعقد المزارعة‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب تحديد عقد المزارعة بمدّة معيّنة فإذا لم تحدّد له مدّة معيّنة أو كانت المدّة مجهولةً فسدت المزارعة‏,‏ ووجه ذلك أنّ المزارعة استئجار ببعض الخارج من الأرض‏,‏ والإجارة لا تصح مع جهالة المدّة‏,‏ فكذلك المزارعة‏.‏

ويجب أن تكون هذه المدّة كافيةً للزّراعة وجني المحصول‏,‏ وتجوز المزارعة على أكثر من عام بشرط تعيين المدّة‏.‏

وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه تصح المزارعة بلا بيان مدّة وتقع على أوّل زرع واحد‏,‏ وعليه الفتوى‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّه لا يشترط بيان مدّة للمزارعة‏,‏ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم ينقل عنه أنّه قدّر لأهل خيبر مدّةً معيّنةً‏,‏ ولو قدّر لم يترك نقله‏,‏ لأنّ هذا ممّا يحتاج إليه فلا يجوز الإخلال بنقله‏.‏

وعمر رضي اللّه عنه أجلاهم من الأرض وأخرجهم منها‏,‏ ولو كانت لهم مدّة مقدّرة لما جاز له إخراجهم منها‏.‏

شروط المزارعة عند الشّافعيّة

18 - لا يجيز الشّافعيّة المزارعة إلّا إذا كانت على البياض الّذي يكون بين النّخيل أو العنب الّذي تمّت المساقاة عليه وأن تكون تبعاً لعقد المساقاة‏.‏

وحتّى تتحقّق هذه التّبعيّة اشترطوا ما يلي‏:‏

أ - اتّحاد العامل‏:‏ ومعنى اتّحاد العامل أن يكون عامل المساقاة هو عامل المزارعة نفسه‏,‏ فإذا كان مختلفاً لا يجوز عقد المزارعة‏,‏ لأنّ إفراد المزارعة بعامل يخرجها عن التّبعيّة‏.‏

ب - تعسر الإفراد‏:‏ ومعناه أن يتعسّر إفراد النّخيل أو العنب محل المساقاة‏,‏ وإفراد البياض بالزّراعة‏,‏ لأنّ التّبعيّة إنّما تتحقّق حينئذ بخلاف تعسر أحدهما‏.‏

ج - اتّصال العقدين‏:‏ ومعناه أن لا يفصل العاقدان بين المساقاة والمزارعة التّابعة لها‏,‏ بل يأتيان بهما على الاتّصال لتحصل التّبعيّة‏.‏

ويشترط اتّحاد العقد بأن يشملهما عقد واحد حتّى تتحقّق التّبعيّة‏,‏ فلو قال صاحب الأرض للعامل‏:‏ ساقيتك على النّصف‏,‏ فقال له‏:‏ قبلت‏,‏ ثمّ زارعه صاحب الأرض على البياض‏,‏ لا تصح المزارعة‏,‏ لأنّ تعدد العقد يزيل التّبعيّة‏,‏ هذا هو الصّحيح في المذهب‏.‏

وفي مقابل الصّحيح عندهم يجوز الفصل بين العقدين لحصولهما لشخص واحد‏.‏

د - تقدّم المساقاة على المزارعة عند التّعاقد‏:‏ فالأصح عند الشّافعيّة اشتراط تقدم المساقاة على المزارعة فلا تتقدّم المزارعة على المساقاة‏,‏ بأن يأتي بالمساقاة عقبها‏,‏ لأنّ التّابع - المزارعة - لا يتقدّم على المتبوع وهو المساقاة‏.‏

ومقابل الصّحيح‏,‏ يجوز تقديم المزارعة على المساقاة ولكنّها تنعقد موقوفةً على انعقاد المساقاة فإن عقدا المساقاة بعدها بان صحّتها‏,‏ وإلّا لا تصح المزارعة‏.‏

الشروط المفسدة للمزارعة

19 - الشروط المفسدة للمزارعة هي‏:‏

أ - شرط كون المحصول النّاتج من الأرض كلّه لأحد المتعاقدين فقط‏,‏ سواء كان لربّ الأرض أم كان للمزارع‏,‏ وهذا باتّفاق الفقهاء‏,‏ لأنّ هذا الشّرط يقطع الشّركة الّتي هي من خصائص عقد المزارعة‏.‏

ب - الشّرط الّذي يؤدّي إلى جهالة نصيب كل من المتعاقدين‏,‏ أو يشترط أحدهما لنفسه كميّةً محدّدةً من المحصول‏,‏ أو زرع ناحية معيّنة وللآخر زرع النّاحية الأخرى‏,‏ وهذا باتّفاق الفقهاء أيضاً‏,‏ لأنّ هذا الشّرط يعود إلى جهالة المعقود عليه‏,‏ فأشبه البيع بثمن مجهول‏,‏ والمضاربة مع جهالة نصيب أحدهما‏,‏ والإجارة مع جهالة الأجرة‏,‏ كما أنّه يقطع الشّركة بين المتعاقدين‏,‏ إذ من الجائز ألّا تخرج الأرض إلّا القدر الّذي اشترطه أحدهما له‏.‏ ج - شرط العمل على صاحب الأرض وحده‏,‏ أو اشتراكه مع المزارع في العمل‏,‏ وقد نصّ على هذا الشّرط الحنفيّة و الحنابلة‏.‏

أمّا عند المالكيّة فالمزارعة شركة بين اثنين أو أكثر في كلّ شيء من أرض وعمل ونفقات وغير ذلك‏.‏

ووجه عدم جواز اشتراط هذا الشّرط‏,‏ أنّه يمنع التّخلية بين الأرض والمزارع وكل شرطٍ يمنع من ذلك يكون فاسداً كما سبق‏.‏

أمّا لو استعان المزارع بصاحب الأرض في العمل فأعانه عليه‏,‏ فإنّ ذلك يكون جائزاً على سبيل التّبرع منه فقط‏.‏

د - شرط كون الماشية على صاحب الأرض‏,‏ لأنّ فيه جعل منفعة الماشية معقوداً عليها مقصودةً في باب المزارعة ولا سبيل إليه‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

هـ - شرط الحمل والحفظ على المزارع بعد قسمة المحصول بينه وبين صاحب الأرض‏,‏ لأنّ هذا ليس من عمل المزارعة‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة و الحنابلة‏.‏

و - شرط حفظ الزّرع على صاحب الأرض قبل الحصاد‏,‏ لأنّ هذا يمنع التّخلية بين الأرض والعامل وهذا مفسد للمزارعة - كما سبق - نصّ على ذلك الحنفيّة و الحنابلة‏.‏

ز - شرط الحصاد والرّفع إلى البيدر‏,‏ والدّياس‏,‏ والتّذرية على العامل‏,‏ لأنّ الزّرع لا يحتاج إليه إذ لا يتعلّق به نماؤُه وصلاحه‏.‏

والأصل أنّ كلّ عمل يحتاج الزّرع إليه قبل تناهيه وإدراكه وجفافه ممّا يرجع إلى إصلاحه‏,‏ من السّقي والحفظ وقلع الحشاوة‏,‏ وحفر الأنهار الدّاخليّة‏,‏ وتسوية المسنّاة فعلى المزارع‏,‏ لأنّ ما هو المقصود من الزّرع وهو النّماء لا يحصل بدونه عادةً‏,‏ فكان من توابع المعقود عليه فكان من عمل المزارعة‏,‏ فيكون على المزارع‏.‏

وكل عمل يكون بعد تناهي الزّرع وإدراكه وجفافه قبل قسمة الحبّ ممّا يحتاج إليه لخلوص الحبّ وتنقيته يكون بينهما على شرط الخارج‏,‏ أي يتحمّل من نفقاته بنسبة ما يستحقّه من المحصول‏,‏ لأنّه ليس من عمل المزارعة‏.‏

وكل عمل يكون بعد القسمة من الحمل ونحوه ممّا يحتاج إليه لإحراز المقسوم فعلى كلّ واحد منهما في نصيبه‏,‏ لأنّ ذلك مؤنة ملكه فيلزمه دون غيره‏.‏

وروي عن أبي يوسف أنّه أجاز شرط الحصاد والرّفع إلى البيدر والدّياس والتّذرية على الزّارع‏,‏ لتعامل النّاس على ذلك‏,‏ وعليه الفتوى‏,‏ وهو مذهب الحنابلة وابن القاسم من المالكيّة‏.‏

ح - اشتراط صاحب الأرض على المزارع عملاً يبقى أثره ومنفعته إلى ما بعد مدّة المزارعة كبناء حائطٍ وحفر النّهر الكبير ورفع المسنّاة ونحو ذلك ممّا يبقى أثره ومنفعته إلى ما بعد انقضاء عقد المزارعة‏,‏ لأنّه شرط لا يقتضيه العقد‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة و الحنابلة‏.‏

ط - شرط الكراب على صاحب الأرض إذا كان البذر من قبل العامل‏.‏

أمّا إذا كان من قبل صاحب الأرض فإنّ العقد جائز لأنّه إذا كان البذر من قبل العامل فالعقد في جانب ربّ الأرض‏,‏ يلزم بنفسه‏,‏ وهذا الشّرط بعدم التّخلية بعد لزوم العقد وذلك لا يجوز‏,‏ وإن كان البذر من جانب ربّ الأرض فلزوم العقد في جانبه إنّما يكون بعد إلقاء البذر في الأرض والكراب يسبق ذلك‏,‏ فكأنّه استأجره لعمل الزّراعة في أرض مكروبة ‏"‏ مقلوبة ‏"‏ نصّ على ذلك الحنفيّة‏.‏

ي - اشتراط البذر على صاحب الأرض والعامل معاً عند الحنفيّة‏.‏

ك - اشتراط التّفاوت في الرّبح عند المالكيّة‏,‏ بأن لا يأخذ كل من المشتركين في المزارعة على قدر بذره‏,‏ كما سبق‏.‏

ل - شرط التّبن لمن لا يكون البذر من قبله‏,‏ وهذا لا يخلو من ثلاثة أوجهٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ أن يشترط صاحب الأرض والمزارع أن يقسم التّبن ونحوه كالحطب وقشّ الأرز والدّريس بينهما‏,‏ وفي هذه الحالة يصح هذا الشّرط‏,‏ لأنّه مقرّر لمقتضى العقد‏,‏ لأنّ الشّركة في الخارج من الزّرع من معانيه ولازم من لوازمه‏,‏ نصّ على ذلك الحنفيّة و المالكيّة‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يسكتا عنه‏,‏ وفي هذه الحالة‏,‏ قال أبو يوسف‏:‏ يفسد العقد‏,‏ لأنّ كلّ واحد من التّبن والحبّ مقصود من العقد‏,‏ فكان السكوت عن التّبن بمنزلة السكوت عن الحبّ وهذا مفسد بالإجماع فكذا هذا‏.‏

ويرى محمّد بن الحسن عدم الفساد إذا سكتا عن ذكر التّبن‏,‏ ويكون التّبن لصاحب البذر منهما‏,‏ سواء كان صاحب الأرض أم المزارع‏,‏ لأنّ ما يستحقّه صاحب البذر إنّما يستحقّه ببذره لا بالشّرط‏,‏ فكان شرط التّبن لأحدهما والسكوت عنه بمنزلة واحدة‏.‏

وذكر الطّحاويّ أنّ محمّداً رجع إلى قول أبي يوسف‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ التّبن يقسم بينهما تبعاً للحبّ‏,‏ لأنّ التّبن كالحبّ كل منهما يعتبر من نتاج الأرض فوجب أن ينقسم على صاحب الأرض والمزارع على حسب النّسبة المتّفق عليها لتقسيم الحبّ ذاته لأنّه تابع له‏.‏

الوجه الثّالث‏:‏ أن يشترطا أن يكون التّبن لأحدهما دون الآخر‏.‏

وفي هذه الحالة ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا اشترطاه لصاحب البذر جاز هذا الشّرط ويكون له‏,‏ لأنّ صاحب البذر يستحقّه من غير شرطٍ لكونه نماء ملكه فالشّرط لا يزيده إلّا تأكيداً‏.‏

وإن شرطاه لمن لا بذر له فسدت المزارعة‏,‏ لأنّ استحقاق صاحب البذر للتّبن بالبذر لا بالشّرط‏,‏ لأنّه نماء ملكه‏,‏ ونماء ملك الإنسان ملكه‏,‏ فصار شرط كون التّبن لمن لا بذر من قبله بمنزلة شرط كون الحبّ له‏,‏ وذا مفسد للعقد‏,‏ كذا هذا‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ التّبن يقسم بين صاحب الأرض والمزارع على ما تعاملا عليه‏,‏ لأنّ التّبن كالحبّ فيقسم عليهما كما يقسم الحب‏,‏ ولأنّه ربّما يصاب الزّرع بآفة سماويّة فلا تخرج الأرض إلّا التّبن تخرج الأرض إلّا التّبن‏,‏ فلو استقلّ به أحدهما فإنّ الآخر لن يأخذ من الخارج شيئاً‏,‏ وهذا يقطع الشّركة الّتي هي من لوازم العقد‏,‏ ويكون كمن شرط أن يكون الخارج كله له‏,‏ أو شرط لنفسه كميّةً معيّنةً من المحصول‏.‏

صور من المزارعة

20 - اختلف الفقهاء في حكم صور من المزارعة‏:‏ منها الصّحيحة‏,‏ وهي ما استوفت شروط صحّتها عند من يقول بها‏,‏ ومنها الفاسدة‏,‏وهي الّتي فقدت شرطاً من هذه الشروط‏.‏ وفيما يلي بعض هذه الصور‏.‏

صور من المزارعة الصّحيحة

21 - أن يكون العمل من جانب‏,‏ والباقي كله من أرض وبذر وماشية وآلات ونفقات من الجانب الآخر‏.‏

وقد نصّ على صحّة هذه الصورة الحنفيّة‏,‏ و المالكيّة‏,‏ و الحنابلة‏.‏

ووجه صحّتها عند الحنفيّة أنّ صاحب الأرض يصير مستأجراً للعامل لا غير‏,‏ ليعمل له في أرضه ببعض الخارج منها‏,‏ الّذي هو نماء ملكه وهو البذر‏.‏

ويشترط المالكيّة لصحّة هذه الصورة أن ينعقد بلفظ الشّركة‏,‏ فإن عقدا بلفظ الإجارة لا تصح لأنّها إجارة بجزء مجهول‏,‏ وإن أطلقا القول فقد حملها ابن القاسم على الإجارة فمنعها‏,‏ وحملها سحنون على الشّركة فأجازها‏,‏ والمشهور عند المالكيّة الأوّل أي‏:‏ حملها على الإجارة‏,‏ فلا تجوز‏.‏

22 - أن تكون الأرض من جانب‏,‏ والباقي كله من الجانب الآخر‏,‏ وهذه الصورة جائزة باتّفاق الحنفيّة‏,‏ و المالكيّة‏,‏ وظاهر المذهب عند الحنابلة أنّه إن كان البذر من ربّ الأرض والعمل من العامل كانت المزارعة صحيحةً‏,‏ وهذا هو الأصل في المزارعة فقد عامل الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم أهل خيبر على هذا‏.‏

ووجه صحّة هذه الصورة عند الحنفيّة‏:‏ أنّ العامل يصير مستأجراً للأرض لا غير ببعض الخارج منها الّذي هو نماء ملكه وهو البذر‏.‏

23 - أن تكون الأرض والبذر من جانب‏,‏ والعمل والماشية من الجانب الآخر وهو المزارع‏,‏ وقد نصّ على صحّة هذه الصورة الحنفيّة والمالكيّة و الحنابلة‏.‏

ووجه صحّة هذه الصورة عند الحنفيّة‏:‏ أنّ هذا استئجار للعامل لا غير مقصوداً‏,‏ فأمّا البذر فغير مستأجر مقصوداً ولا يقابله شيء من الأجرة بل هي توابع للمعقود عليه وهو منفعة العامل‏,‏ لأنّه آلة للعمل فلا يقابله شيء منه‏,‏ ولأنّه لمّا كان تابعاً للمعقود عليه كان جارياً مجرى الصّفة للعمل‏,‏ فكان العقد عقداً على عمل جيّد‏,‏ والأوصاف لا قسط لها من العوض فأمكن أن تنعقد إجارةً ثمّ تتم شركةً بين منفعة الأرض ومنفعة العامل‏.‏

24 - أن يتساويا في الجميع‏,‏ أرضاً وعملاً وبذراً وماشيةً ونفقات‏,‏ لأنّ أحدهما لا يفضل صاحبه بشيء‏.‏

وقد نصّ على صحّة هذه الصورة الحنفيّة‏,‏ و المالكيّة‏,‏ و الحنابلة‏.‏

ووجه صحّة هذه الصورة عند الحنفيّة‏,‏ نصّ عليه السّرخسيّ في المبسوط فقال‏:‏ وإذا كانت الأرض بين رجلين فاشترطا على أن يعملا فيها جميعاً سنتهما هذه ببذرهما وبقرهما‏,‏ فما خرج فهو بينهما نصفان فهو جائز‏,‏ لأنّ كلّ واحد منهما عامل في نصيبه من الأرض ببذره وبقره غير موجب لصاحبه شيئاً من الخارج منه‏,‏ فإن اشترطا أن يكون الخارج بينهما ثلاثاً كان فاسداً‏,‏ لأنّ الّذي شرط لنفسه الثلث كأنّه دفع نصيبه من الأرض والبذر إلى صاحبه مزارعةً بثلث الخارج منه على أن يعمل هو معه وذلك مفسد للعقد‏,‏ ولأنّ ما شرط من الزّيادة على النّصف لصاحب الثلثين يكون أجرةً له على عمله‏,‏ وإنّما يعمل فيما هو شريك فيه‏,‏ فلا يستوجب الأجر فيما هو شريك فيه على غيره‏,‏ ولو كان البذر منهما والخارج كذلك كان جائزاً‏,‏ لأنّ الّذي شرط لنفسه ثلث الخارج كأنّه أعار شريكه ثلث نصيبه من الأرض وأعانه ببعض العمل وذلك جائز‏,‏ ولو اشترطا أنّ الخارج نصفان كان فاسداً‏,‏ لأنّ الّذي كان منه ثلث البذر شرط لنفسه بعض الخارج من بذر شريكه وإنّما يستحقّ ذلك بعمله والعامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الأجر على غيره‏,‏ إذ هو يصير دافعاً سدس الأرض من شريكه مزارعةً بجميع الخارج منه‏,‏ وذلك فاسد‏,‏ ثمّ الخارج بينهما على قدر بذرهما‏,‏ وعلى صاحب ثلثي البذر أجر مثل سدس الأرض لشريكه‏,‏ لأنّه استوفى منفعة ذلك القدر من نصيبه من الأرض بعقد فاسد ويكون له نصف الزّرع طيّباً لا يتصدّق بشيء منه‏,‏ لأنّه ربّاه في أرض نفسه‏,‏ وأمّا سدس الزّرع فإنّه يدفع منه ربع بذره الّذي بذره‏,‏ وما غرم من الأجر والنّفقة فيه يتصدّق بالفضل‏,‏ لأنّه ربّاه في أرض غيره بعقد فاسد ويكون له نصف الزّرع طيّباً لا يتصدّق بشيء منه لأنّه ربّاه في أرض غيره بعقد فاسد‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ ولو كانت الأرض لثلاثة فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم ودوابّهم وأعوانهم على أنّ ما أخرج اللّه بينهم على قدر مالهم فهو جائز‏,‏ لأنّ أحدهم لا يفضل صاحبيه بشيء‏.‏

25 - إذا قابل بذر أحدهما عمل من الآخر‏,‏ وكانت الأرض مشتركةً بينهما بملك أو إجارة أو كانت مباحةً‏,‏ وتساوت قيمة العمل والبذر فإنّ الشّركة تكون صحيحةً‏,‏ نصّ على ذلك المالكيّة‏.‏

26 - إذا قابل الأرض وبعض البذر عمل من الآخر مع بعض البذر‏,‏ نصّ على صحّة ذلك المالكيّة‏.‏

وشرط صحّة هذه الصورة عندهم أن لا ينقص ما يأخذه العامل من الرّبح عن نسبة بذره بأن زاد ما يأخذه على بذره أو ساواه على الأقلّ‏.‏

مثال الزّيادة‏:‏ أن يخرج أحدهما الأرض وثلثي البذر‏,‏ والثّاني العمل وثلث البذر‏,‏ على أن يأخذ كل نصف الرّبح‏,‏ ففي هذا المثال يكون العامل قد أخذ أزيد من نسبة ماله من البذر فتكون المزارعة صحيحةً‏.‏

ومثال المساواة‏:‏ أن يأخذ صاحب الأرض الثلثين من الرّبح ويأخذ العامل الثلث‏,‏ ففي هذا المثال يكون العامل قد أخذ ما يساوي مثل نسبة ماله من البذر فتكون المزارعة صحيحةً كذلك‏.‏

أمّا لو أخذ العامل أقلّ من الثلث فإنّ المزارعة تكون فاسدةً‏,‏ لأنّه أخذ أقلّ من نسبة ماله من البذر‏.‏

وهذه الصورة لا تصح عند الحنفيّة‏,‏ لأنّ البذر لا يصح أن يكون عليهما كما سبق‏.‏

27 - أن تكون الأرض والماشية من جانب‏,‏ والعمل والبذر من الجانب الآخر‏.‏

وهذه الصورة جائزة عند أبي يوسف‏,‏ لأنّه لو كانت الأرض والبذر من جانب جاز‏,‏ وجعلت منفعة الماشية تابعةً لمنفعة العامل‏,‏ فكذا إذا كانت الأرض والماشية من جانب‏,‏ فإنّها تجوز‏,‏ وتجعل منفعة الدّوابّ تابعةً لمنفعة الأرض‏.‏

وفي ظاهر الرّواية لا تجوز‏,‏ لأنّ العامل هنا يصير مستأجراً للأرض والماشية جميعاً مقصوداً ببعض الخارج‏,‏ لأنّه لا يمكن تحقيق معنى التّبعيّة هنا لاختلاف جنس المنفعة‏,‏ لأنّ منفعة الماشية ليست من جنس منفعة الأرض فبقيت أصلاً بنفسها‏,‏ فكان هذا استئجاراً للماشية ببعض الخارج أصلاً ومقصوداً‏,‏ واستئجار الماشية مقصوداً ببعض الخارج لا يجوز‏.‏

صور من المزارعة الفاسدة

28 - أن يكون البذر والدّواب من جانب‏,‏ والأرض والعمل من الجانب‏,‏ الآخر نصّ على ذلك الحنفيّة و الحنابلة‏,‏ لأنّ صاحب البذر يصير مستأجراً للأرض والعامل معاً ببعض المحصول‏,‏ والجمع بين الأرض والعامل معاً في جانب واحد يفسد المزارعة‏,‏ لأنّه على خلاف مورد الأصل‏.‏

29 - أن يكون البذر من طرف‏,‏ والباقي كله من الطّرف‏,‏ الآخر نصّ على ذلك الحنفيّة‏,‏ و الحنابلة‏,‏ ووجه فساد هذه الصورة هو وجه فساد الصورة الأولى‏,‏ حيث جمع فيها بين الأرض والعمل في جانب واحد‏,‏ وهذا على خلاف مورد الشّرع‏.‏

وروي عن أبي يوسف القول بالجواز في الصورتين‏.‏

ووجه ذلك عنده‏,‏ أنّ استئجار كلّ واحد منهما جائز عند الانفراد فكذا يجوز عند الاجتماع‏.‏ 30 - أن يكون بعض البذر من المزارع‏,‏ والبعض من صاحب الأرض نصّ على ذلك الحنفيّة‏,‏ و الحنابلة‏,‏ في ظاهر المذهب‏.‏

ووجه فساد هذه الصورة عند الحنفيّة‏:‏ أنّ كلّ واحد منهما يصير مستأجراً صاحبه في قدر بذره‏,‏ فيجتمع استئجار الأرض والعامل في جانب واحد‏,‏ وهذا يفسد المزارعة‏.‏

ووجه فسادها عند الحنابلة‏:‏ أنّ البذر لا يكون إلّا على صاحب الأرض ولا يجوز أن يكون على العامل طبقاً لظاهر المذهب‏,‏ لأنّ المال كلّه يجب أن يكون من جانب واحد كالمضاربة‏.‏ ولكن هذه الصورة صحيحة عند المالكيّة‏,‏ لأنّه يجوز عندهم أن يشترك صاحب الأرض والمزارع في البذر كما سبق‏.‏

31 - أن تكون الأرض من جانب‏,‏ والبذر والماشية من جانب‏,‏ بأن دفع صاحب الأرض أرضه إلى المزارع ليزرعها ببذره وماشيته مع رجل آخر على أنّ ما خرج من الأرض فثلثه لصاحب الأرض‏,‏ وثلثاه لصاحب البذر والماشية‏,‏ وثلثه لذلك العامل الآخر‏,‏ هذه المزارعة صحيحة في حقّ صاحب الأرض‏,‏ والمزارع الأوّل‏,‏ وفاسدة في حقّ المزارع الثّاني‏,‏ ويكون ثلث الخارج لصاحب الأرض وثلثاه للمزارع الأوّل‏,‏ وللعامل الآخر أجر مثل عمله‏.‏ قال الكاساني الحنفي‏:‏ وكان ينبغي أن تفسد المزارعة في حقّ الكلّ‏,‏ لأنّ صاحب البذر وهو المزارع الأوّل جمع بين استئجار الأرض والعامل‏,‏ والجمع بينهما مفسد للمزارعة بكونه خلاف مورد الشّرع‏,‏ ومع ذلك حكم بصحّتها في حقّ الأرض والمزارع الأوّل‏,‏ وإنّما كان كذلك‏,‏ لأنّ العقد فيما بين صاحب الأرض والمزارع الأوّل وقع استئجاراً للأرض لا غير وهذا جائز‏,‏ وفيما بين المزارعين وقع استئجار الأرض والعامل جميعاً وهذا غير صحيح‏,‏ ويجوز أن يكون للعقد الواحد جهتان‏,‏ جهة الصّحّة وجهة الفساد خصوصاً في حقّ شخصين‏,‏ فيكون صحيحاً في حقّ أحدهما وفاسداً في حقّ الآخر‏.‏

أمّا لو كان البذر في هذه الصورة من صاحب الأرض فإنّ المزارعة تقع صحيحةً في حقّ الجميع ويكون الخارج بينهما على الشّرط‏,‏ لأنّ صاحب الأرض في هذه الصورة يصير مستأجراً للعاملين معاً‏,‏ والجمع بين استئجار العاملين لا يقدح في صحّة عقد المزارعة وإذا صحّ العقد كان النّماء على الشّرط‏,‏ هذا ما ذكره الحنفيّة‏.‏

32 - إذا قال صاحب الأرض لرجل‏:‏ أنا أزرع الأرض ببذري‏,‏ وعواملي‏,‏ ويكون سقيها من مائك‏,‏ والزّرع بيننا‏,‏ فعند الحنابلة روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا تصح‏,‏ لأنّ موضع المزارعة أن يكون العمل من أحدهما والأرض من الآخر‏,‏ وليس من صاحب الماء هنا أرض ولا عمل‏,‏ لأنّ الماء لا يباع ولا يشترى ولا يستأجر‏,‏ فكيف تصح به المزارعة‏؟‏ وقد اختار هذه الرّواية كل من القاضي وابن قدامة‏,‏ وعلّل الأخير هذا الاختيار بأنّ هذا ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص‏.‏

والثّانية‏:‏ تصح المزارعة‏,‏ لأنّ الماء أحد الأشياء الّتي يحتاجها الزّرع‏,‏ فجاز أن يكون من أحدهما كالأرض والعمل‏,‏ وقد اختار هذه الرّواية أبو بكر ونقلها عن الإمام أحمد يعقوب بن بختان وحرب‏.‏

33 - إذا قال صاحب الأرض لآخر‏:‏ أجّرتك نصف أرضي هذه بنصف بذرك ونصف منفعتك ومنفعة ماشيتك‏,‏ وأخرج المزارع البذر كلّه لا يصح العقد‏,‏ لأنّ المنفعة مجهولة وإذا جهلت فسد العقد‏,‏ وكذلك لو جعلها أجرةً لأرض أخرى لم يجز‏,‏ ويكون الزّرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض‏.‏

وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه معرفة البذر جاز وكان الزّرع بينهما‏.‏ وقيل‏:‏ لا يصح أيضاً‏,‏ لأنّ البذر عوض فيشترط قبضه كما لو كان مبيعاً وما حصل فيه قبض‏.‏

وإن قال له‏:‏ آجرتك نصف أرضي بنصف منفعتك ومنفعة ماشيتك‏,‏ وأخرجا البذر معاً‏,‏ فهي كالصورة السّابقة‏,‏ إلّا أنّ الزّرع يكون بينهما على كلّ حال‏,‏ نصّ على كلّ ذلك الحنابلة‏.‏

34 - إذا اشترك أربعة في عقد مزارعة على أن يكون من أحدهم الأرض‏,‏ ومن الثّاني الماشية‏,‏ ومن الثّالث البذر‏,‏ ومن الرّابع العمل فسدت المزارعة‏,‏ وقد نصّ الحنفيّة على فساد هذه الصورة‏.‏

ولو اشترك ثلاثة‏:‏ من أحدهم الأرض‏,‏ ومن الثّاني البذر‏,‏ ومن الثّالث الماشية والعمل‏,‏ على أن يقسم المحصول بينهم فسدت المزارعة‏,‏ نصّ على ذلك الحنابلة‏.‏

وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف هذا العقد جائز‏.‏